حرف الألف / الإيجاب

           

الإلزام والإسقاط والإيقاع، وهو مشتق من الوجوب، فـ«الواو والجيم والباء أصل واحد، يدل على سقوط الشيء ووقوعه»[1]، و«وجب الشيء؛ أي: لزم، يجب وجوبًا، وأوجبه الله، واستوجبه؛ أي: استحقه»[2].


[1] مقاييس اللغة (6/89) [دار الجيل، 1420هـ]، وانظر: تهذيب اللغة (11/222) [الدار المصرية للتأليف والترجمة، ط1 1384هـ]، والقاموس المحيط (141) [مؤسسة الرسالة، ط7 1424هـ].
[2] الصحاح (1/231) [دار العلم للملايين، ط4].


للإيجاب معنيان:
عام: وهو أمر الله تبارك وتعالى وإلزامه لعباده بشرعه المنزل على رسله عليهم السلام. وهذا المعنى العام شامل لكل ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده من أوامر ونواه على سبيل الوجوب والجزم والإلزام بامتثاله فعلاً أو تركًا.
وخاص: وهو أمر الله تبارك وتعالى وإلزامه لعباده بفعل الواجبات التي ألزمهم بها في شرعه المنزل على رسله عليهم السلام.
وهذا خاص بفعل الواجبات، ويقابله هنا: التحريم وهو: نهي الله تبارك وتعالى وإلزامه لعباده بترك المحرمات التي أمرهم بتركها في شرعه المنزل على رسله عليهم السلام.



الإيجاب في اصطلاح أهل الأصول: الإثبات والإلزام، وطلب الفعل طلبًا جازمًا، فمعنى إيجابِ اللهِ تعالى علينا الصلاةَ إثباتُها علينا، وإلزامه إيانا بها.
وحقيقة هذا الإيجاب والإلزام هو تصيير الشيء واجبًا ولازمًا، والتصيير صفة فعلية لله تبارك وتعالى [1].
وفي معنى الإيجاب: الفرض، يقال: أوجب عليه كذا: إذا فرضه عليه؛ ألزمه به، وعنه: إيجاب الله على عباده طاعته.
ويطلق الإيجاب على: كلام يصدر من أحد المتعاقدين من أجل إنشاء العقد، وكلام الثاني إذا كان موافقًا لكلام الأول يسمى قَبولاً[2].


[1] انظر: شرح مختصر الروضة (1/259) [مؤسسة الرسالة]، وإرشاد الفحول (1/72) [دار الفضيلة، ط1].
[2] انظر: معجم لغة الفقهاء (98) [دار النفائس، ط1].


التشريع، الفرض.



وجوب إثبات صفة الإيجاب لله تبارك وتعالى على حقيقتها من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل؛ إذ هو سبحانه وتعالى المشرع وحده لا شريك له، يوجب على عباده الواجبات، ويحرم عليهم المحرمات، وهذا من خصائص ربوبيته سبحانه على خلقه، والواجب على العباد إثبات ما وصف الله به نفسه والتعبد له بمقتضى هذه الصفات العظيمة.



كل ما أمر الله به عباده أمر إيجاب وإلزام فهو دليل على هذه الصفة، وكل ما نهاهم عنه نهي تحريم فهو إيجاب منه عليهم للترك والانتهاء عما نهوا عنه، وهو كذلك دليل على هذه الصفة.
ومن الأدلة على ذلك:
1 ـ قول الله سبحانه وتعالى: {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا *} [الأحزاب] .
2 ـ وقوله سبحانه وتعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ *} [التحريم] .
ومن السُّنَّة:
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا» ، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم...» [1]، «وقوله: «لوجبت» ؛ أي: لأوجبها الله سبحانه وتعالى»[2]. قال ابن تيمية رحمه الله: «... فلهذا كان دين المؤمنين بالله ورسوله أن الأحكام الخمسة: الإيجاب، والاستحباب، والتحليل، والكراهية، والتحريم، لا يؤخذ إلا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلا واجب إلا ما أوجبه الله ورسوله، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله»[3].


[1] أخرجه مسلم في صحيحه (كتاب الحج، رقم 1337).
[2] صفات الله سبحانه وتعالى الواردة في الكتاب والسُّنَّة (66) [دار الهجرة، ط2، 1422هـ].
[3] مجموع الفتاوى (22/226 ـ 227) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف، 1415هـ].


كلام العلماء في هذا كثير، لا سيما الأصوليين؛ لأن من الأحكام الشرعية الواجب والمحرم، والواجب لا يكون واجبًا إلا بإيجاب الله له، والمحرم لا يكون محرمًا إلا بتحريم الله له، فهو المشرع سبحانه للأحكام لا شريك له.
ومن كلامهم ما يلي:
1 ـ بوّب ابن خزيمة رحمه الله في «صحيحه»[1] بابًا قال فيه: «باب: ذكر إيجاب الله سبحانه وتعالى الجنة للصائم يومًا واحدًا إذا جمع مع صومه صدقة وشهود جنازة وعيادة مريض».
2 ـ وقال ابن جرير الطبري رحمه الله: «وأما قول إبراهيم عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] فإنه إن يكن قال ذلك قبل إيجاب الله فرض تحريمه على لسانه على خلقه؛ فإنما عنى بذلك تحريم الله إياه الذي حرمه بحياطته إياه وكلاءته من غير تحريمه إياه على خلقه على وجه التعبد لهم بذلك، وإن يكن قال ذلك بعد تحريم الله إياه على لسانه على خلقه على وجه التعبد، فلا مسألة لأحد علينا في ذلك»[2].
3 ـ وقال ابن تيمية رحمه الله: «الحلف بصفاته كالحلف به كما لو قال: وعزة الله تعالى، أو لعمر الله، أو والقرآن العظيم... وإذا كان كذلك فالحلف بالنذر والطلاق ونحوهما هو حلف بصفات الله؛ فإنه إذا قال: إن فعلت كذا فعليَّ الحج. فقد حلف بإيجاب الحج عليه وإيجاب الحج عليه حكم من أحكام الله تعالى وهو من صفاته، وكذلك لو قال: فعليَّ تحرير رقبة، وإذا قال: فامرأتي طالق وعبدي حر. فقد حلف بإزالة ملكه الذي هو تحريمه عليه، والتحريم من صفات الله كما أن الإيجاب من صفات الله ، وقد جعل الله ذلك من آياته في قوله: {وَلاَ تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} [البقرة: 231] . فجعل صدوره في النكاح والطلاق والخلع من آياته؛ لكنه إذا حلف بالإيجاب والتحريم فقد عقد اليمين لله كما يعقد النذر لله، فإن قوله: عليَّ الحج والصوم عقد لله»[3].


[1] (3/304) [المكتب الإسلامي، 1400هـ].
[2] تفسير الطبري (2/543) [دار هجر، ط1].
[3] مجموع الفتاوى (35/273 ـ 274).


1 ـ إيجاب الله على عباده، وهو المراد تقريره فيما تقدم.
2 ـ إيجاب الله سبحانه وتعالى على نفسه، وهذا سيأتي في المسائل المتعلقة.



ـ إيجاب الله على نفسه سبحانه وتعالى:
أوجب الله سبحانه وتعالى على نفسه أمورًا وأخبرنا أنه أوجبها على نفسه بإيجابه هو لا بإيجاب أحد من خلقه، فإنه سبحانه أعلى وأعظم وأجل من أن يوجب عليه أحد من خلقه شيئًا.
قال ابن تيمية رحمه الله: «وأما الإيجاب عليه سبحانه وتعالى والتحريم بالقياس على خلقه، فهذا قول القدرية، وهو قول مبتدع مخالف لصحيح المنقول وصريح المعقول، وأهل السُّنَّة متفقون على أنه سبحانه خالق كل شيء ومليكه، وأن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأن العباد لا يوجبون عليه شيئًا، ولهذا كان من قال من أهل السُّنَّة بالوجوب قال: إنه كتب على نفسه، وحرم على نفسه لا أن العبد نفسه يستحق على الله شيئًا، كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، فهو الخالق لهم، وهو المرسل إليهم الرسل، وهو الميسر لهم الإيمان والعمل الصالح. ومن توهم من القدرية والمعتزلة ونحوهم أنهم يستحقون عليه من جنس ما يستحقه الأجير على من استأجره فهو جاهل في ذلك. وإذا كان كذلك لم تكن الوسيلة إليه إلا بما مَنَّ به من فضله وإحسانه، والحق الذي لعباده هو من فضله وإحسانه؛ ليس من باب المعاوضة، ولا من باب ما أوجبه غيره عليه فإنه سبحانه هو يتعالى عن ذلك»[1].
وقال ابن القيم رحمه الله: «فصل: وكذلك الكلام في الإيجاب في حق الله سواء؛ الأقوال فيه كالأقوال في التحريم، وقد أخبر سبحانه عن نفسه أنه كتب على نفسه وأحق على نفسه، قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ *} [الروم] ، وقال تعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] ، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة: 111] .
وفي الحديث الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لمعاذ رضي الله عنه: «أتدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئًا. أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم» [2]، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم في غير حديث: من فعل كذا كان على الله أن يفعل به كذا وكذا في الوعد والوعيد، ونظير هذا ما أخبر سبحانه من قسمه ليفعلن ما أقسم عليه؛ كقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *} [الحجر] ، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا *ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ عِتِيًّا *} [مريم] ، وقوله: {لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ *} [إبراهيم] ، وقوله: {لأََمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ *} [ص] ، وقوله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأَُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [آل عمران: 195] ، وقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ *} [الأعراف] ... إلى أمثال ذلك من صيغ القسم المتضمن معنى إيجاب المقسم على نفسه أو منعه نفسه، وهو القسم الطلبي المتضمن للحظر والمنع، بخلاف القسم الخبري المتضمن للتصديق والتكذيب، ولهذا قسم الفقهاء وغيرهم اليمين إلى موجب للحظر والمنع أو التصديق والتكذيب، قالوا: وإذا كان معقولاً من العبد أن يكون طالبًا من نفسه فتكون نفسه طالبة منها، لقوله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} [يوسف: 53] ، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى *} [النازعات] ، مع كون العبد له آمر وناه فوقه، فالرب تعالى الذي ليس فوقه آمر ولا ناه، كيف يمتنع منه أن يكون طالبًا من نفسه فيكتب على نفسه ويحق على نفسه ويحرم على نفسه؟ بل ذلك أولى وأحرى في حقه من تصوره في حق العبد، وقد أخبر به عن نفسه وأخبر به رسوله. قالوا: وكتابه ما كتبه على نفسه وإحقاقه ما حقه عليها متضمن لإرادته ذلك ومحبته له ورضاه به وأنه لا بد أن يفعله، وتحريمه ما حرمه على نفسه متضمن لبغضه لذلك وكراهته له وأنه لا يفعله، ولا ريب أن محبته لما يريد أن يفعله ورضاه به يوجب وقوعه بمشيئته واختياره، وكراهته للفعل وبغضه له يمنع وقوعه منه مع قدرته عليه لو شاء»[3]


[1] اقتضاء الصراط المستقيم (2/310 ـ 311) [دار أشبيليا، ط2، 1419هـ].
[2] أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 2856)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 30).
[3] مفتاح دار السعادة (2/110) [دار الكتب العلمية].


الحكمة من إيجاب الله على خلقه الواجبات: تحقيق العبودية التي خلقوا من أجلها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ *} [الذاريات] ، وقال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً *} [القيامة] ؛ أي: هملاً لا يؤمر ولا ينهى![1]. فالله سبحانه وتعالى لما خلقنا لم يتركنا هملاً بل أرسل إلينا رسولاً بالشرع الواجب علينا التزامه وعبادة الله به، فمن أطاعه دخل الجنة ومن عصاه دخل النار؛ كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً *فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلاً *} [المزَّمل] [2].


[1] انظر: تفسير الطبري (23/526).
[2] انظر: ثلاثة الأصول ضمن مجموع مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب (6/134) [ط2، 1423هـ].


1 ـ «إرشاد الفحول» (ج1)، للشوكاني.
2 ـ «اقتضاء الصراط المستقيم» (ج2)، لابن تيمية.
3 ـ «تفسير الطبري» (ج2)، للطبري.
4 ـ «صحيح ابن خزيمة» (ج3).
5 ـ «صفات الله سبحانه وتعالى الواردة في الكتاب والسُّنَّة»، لعلوي السقاف.
6 ـ «مجموع الفتاوى» (ج35)، لابن تيمية.
7 ـ «معجم لغة الفقهاء»، لمحمد قلعجي وزميله.
8 ـ «مفتاح دار السعادة» (ج2)، لابن القيم.