حرف الألف / الإيجاد

           

يقول ابن فارس: «الواو والجيم والدال يدل على أصل واحد، وهو الشيء يُلفيه، ووجَدت الضالة وُجْدانًا»[1]. «ووُجِد الشيء عن عدم فهو موجود... وأوجَده الله»[2]. و«الوُجود خلاف العدم، وأوجَد الله الشيء من العدم فوجِد فهو موجود، من النوادر»[3]. والمعاني السابقة تدل على أن الإيجاد في اللغة؛ يعني: خلق الشيء بعد أن كان عدمًا، وأن الموجود خلاف المعدوم، والوجود خلاف العدم، وهو الكون والثبوت.


[1] مقاييس اللغة (6/86) [دار الجيل، ط1].
[2] الصحاح (2/547) [دار العلم للملايين، ط3].
[3] المصباح المنير (2/891) [دار القلم].


لم يتحدث أهل السُّنَّة كثيرًا عن لفظ الإيجاد؛ لأن له مرادفًا شرعيًّا واردًا في الكتاب والسُّنَّة وهو لفظ: الخلق، قال ابن تيمية: «إيجاد الله للخلق هو خلقه لهم»[1]. وقال ابن القيم: «فالخلق: الإيجاد»[2]، وبيّن ابن القيم أن الإيجاد من معاني الجعل فقال: «وأما الجعل فقد أطلق على الله سبحانه بمعنيين أحدهما: الإيجاد والخلق، والثاني: التصيير»[3]. وقد فسر ابن كثير قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2] فقال: «ومعنى الآية: أنه أوجد الخلائق من العدم»[4]، ومن خلال النقول السابقة يمكن القول: إن معنى الإيجاد هو الخلق.


[1] الصفدية (2/190) [مكتبة ابن تيمية، ط2].
[2] شفاء العليل (65) [مكتبة الرياض الحديثة، ط1].
[3] شفاء العليل (133).
[4] تفسير ابن كثير (4/422) [دار الكتب العلمية].


المرادف الشرعي للإيجاد هو الخلق، ويعبِّر عنه المتكلمون بالتكوين، والاختراع، ويعبر عنه الفلاسفة بالإبداع، وسيأتي التعليق على هذه التسميات.



لفظ الإيجاد من الألفاظ التي يخبر بها عن الله سبحانه وتعالى ولكن لا يوصف به؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يصف نفسه به ولم يصفه به رسوله صلّى الله عليه وسلّم، يقول ابن القيم رحمه الله: «وأما لفظ الموجد فلم يقع في أسمائه سبحانه، وإن كان هو الموجد على الحقيقة، ووقع في أسمائه الواجد وهو بمعنى الغني الذي له الوُجد، وأما الموجد فهو مفعل من أوجد وله معنيان: أحدهما: أن يجعل الشيء موجودًا وهو تعدية وجده وأوجده... والمعنى الثاني: أوجده جعل له جدة وغنى»[1]. وقال مبينًا الاسم الشرعي: «وأما الموجد فقد سمّى نفسه بأكمل أنواعه؛ وهو الخالق البارئ المصور، فالموجد كالمحدث والفاعل والصانع، وهذا من دقيق فقه الأسماء الحسنى»[2].


[1] شفاء العليل (132).
[2] مدارج السالكين (3/416).


يفسِّر كثير من المتكلمين الإيجاد بالخلق، والتكوين، والاختراع، وما في معناه، يقول الرازي: «أما الخلق بمعنى الإحداث والإيجاد فعندنا أنه سبحانه منفرد به»[1]. ومما قالوا في معنى الإيجاد: «والتكوين والاختراع والإيجاد والخلق ألفاظ تشترك في معنى وتتباين بمعان، والمشترك فيه كون الشيء موجدًا من العدم ما لم يكن موجودًا»[2]. وتفسير الإيجاد بالخلق يتفق أهل السُّنَّة فيه مع المتكلمين؛ ولكن يعود النقد إلى معنى الخلق عند المتكلمين وموقفهم من صفات الفعل. وأما الماتريدية فيقول البزدوي: «إن التكوين والإيجاد صفة لله تعالى غير حادث بل هو أزلي»[3]، وذلك لأن الماتريدية ترجع جميع صفات الفعل عندهم إلى التكوين، ويقولون بأزلية صفات الفعل، وعدم تعددها، وعدم تعلقها بمشيئة الرب، وهذا باطل.
وأما الفلاسفة فيقول ابن رشد: «ليس الإيجاد شيئًا إلا قلب عدم الشيء إلى الوجود»[4]، وهذا يشبه قول من قال: إن المعدوم شيء، حيث يرون أن الشيء قبل أن يوجد فيه قوة للوجود، فإن العدم عندهم ذات ما[5]، فهم يفرقون بين الوجود والثبوت، وهذا باطل، فالمعدوم ليس بشيء، فضلاً عن أن يكون فيه قوة للوجود، بل وجود الشيء هو ثبوته. وفي كتاب «دستور العلماء»: «الإيجاد إعطاء الوجود، وفي الإشارات إشارة إلى أنه يرادف الإبداع»[6]. وتعريف الإبداع عند ابن سينا: «هو اسم مشترك لمفهومين؛ أحدهما: تأسيس الشيء لا عن شيء، ولا بواسطة شيء، والمفهوم الثاني: أن يكون للشيء وجود مطلق عن سبب بلا متوسط، وله في ذاته أن لا يكون موجودًا، وقد أفقد الذي له من ذاته إفقادًا تامًّا»[7]. والإبداع بهذا المعنى أعلى رتبة عند الفلاسفة من الإحداث والتكوين[8]. فالإبداع عند الفلاسفة ـ باختصار ـ هو إيجاد شيء غير مسبوق بالعدم، وغير مسبوق بمادة أو زمان، وهذا المعنى الذي ذكره ابن سينا للإبداع باطل، يقول ابن تيمية معلقًا عليه: «ومعلوم أن هذا المعنى ليس هو المعروف من لفظ الإبداع في اللغة التي نزل بها القرآن، كما في قوله سبحانه وتعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 117، الأنعام: 101] ونحو ذلك، ولفظ الخلق أبعد عن هذا المعنى، فإن هذا المعنى يعلم بالاضطرار أنه ليس هو المراد بلفظ الخلق في القرآن والسُّنَّة»[9].


[1] المطالب العالية من العلم الإلهي (9/137) [دار الكتاب العربي].
[2] تلخيص المحصل للطوسي على هامش كتاب المحصل (187) [مكتبة الكليات الأزهرية].
[3] أصول الدين (69 ـ 70) [دار الكتب العلمية، ط3].
[4] تهافت التهافت (91) [دار الألباب، ط1، 1419هـ].
[5] انظر: تهافت التهافت (77).
[6] موسوعة مصطلحات دستور العلماء (191) [مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 1997م].
[7] الحدود ضمن كتاب المصطلح الفلسفي (262) [المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2، 1997م]، وانظر: معيار العلم (284) [دار الكتب العلمية، ط1].
[8] انظر: الإشارات لابن سينا (3/95) [دار المعارف].
[9] بغية المرتاد (237) [مكتبة العلوم والحكم، ط1].


1 ـ «الألفاظ والمصطلحات المتعلقة بتوحيد الربوبية جمع ودراسة»، لآمال العمرو [رسالة دكتوراه].
2 ـ «بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية»، لابن تيمية.
3 ـ «شفاء العليل»، لابن القيم.
4 ـ «الصفدية» (ج2)، لابن تيمية.
5 ـ «عقيدة التوحيد في القرآن الكريم»، لمحمد ملكاوي.
6 ـ «تهافت التهافت»، لابن رشد.
7 ـ «المطالب العالية من العلم الإلهي»، للرازي.
8 ـ «موسوعة مصطلحات جامع العلوم»، لمجموعة من المؤلفين.
9 ـ «موسوعة مصطلحات الإمام فخر الدين الرازي»، لسميح دغيم.
10 ـ «موسوعة مصطلحات الفلسفة عند العرب»، لجيرار جهامي.