قال ابن فارس: «الهمزة والميم والنون أصلان متقاربان: أحدهما: الأمانة التي هي ضد الخيانة، ومعناها سكون القلب، والآخر: التصديق»[1]. إلا أن الإيمان إنما يطلق على التصديق الذي معه أمن، وليس على مجرد التصديق فقط. قال الجوهري: «وأصل آمن: أأمن بهمزتين لُيِّنت الثانية»[2]، وهو من الأمن ضد الخوف[3]، وقال الراغب: «أصل الأمن: طمأنينة النفس وزوال الخوف»[4]، وقال أيضًا: «قال تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ *} [يوسف] قيل: معناه: بمصدق لنا، إلا أن الإيمان هو التصديق الذي معه أمن»[5].
[1] مقاييس اللغة (1/133) [دار الفكر، ط1399هـ].
[2] الصحاح (5/2071) [دار العلم الملايين، ط4].
[3] الصحاح (5/2071)، والقاموس المحيط (1176) [مؤسسة الرسالة، ط8، 1426هـ].
[4] مفردات ألفاظ القرآن (1/48) [دار القلم].
[5] المصدر السابق (1/48).
حقيقة الإيمان أنه مبني على القول والعمل والاعتقاد، فهو جميع الطاعات الباطنة والظاهرة؛ فالباطنة: كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، وكل ما له تعلق بأعمال القلب. والظاهرة: هي جميع أفعال البدن من الواجبات والمندوبات[1].
[1] انظر: الصلاة لابن القيم (54) [دار الوطن، ط2].
تظهر أهمية الإيمان في الأمور الآتية:
1 ـ كونه أعظم واجب كُلف به الإنسان في هذه الحياة.
2 ـ كونه حق الله عزّ وجل على عباده.
3 ـ أن من حققه كان له الفوز والفلاح والتمكين في الأرض، ومن أخلَّ به كان له الخسران المبين.
4 ـ أن اسم الإيمان قد تكرر ذكره في القرآن والحديث أكثر من ذكر سائر الألفاظ.
5 ـ أنه أصل الدين.
6 ـ به يخرج الناس من الظلمات إلى النور.
7 ـ به يفرق بين السعداء والأشقياء ومن يوالى ومن يعادى[1].
[1] مجموع الفتاوى (7/289).
لقد تضافرت نصوص الكتاب والسُّنَّة على أن الإيمان قول وعمل واعتقاد.
ـ فمما يدل على أن الإيمان قول باللسان قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 136] .
ـ ومما يدل على أن الإيمان اعتقاد بالقلب قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ *} [الأنفال] .
ـ وأما الأدلة على أن عمل الجوارح من الإيمان قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] . قال حافظ الحكمي: «ولما كانت الصلاة جامعة لقول القلب وعمله، وقول اللسان وعمله وعمل الجوارح سمّاها الله تعالى إيمانًا في قول الله عزّ وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}»[1].
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الإيمان بضع وستون شعبة: فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان»[2].
وجاء في حديث وفد عبد قيس؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: «أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخُمُس...»[3].
[1] انظر: معارج القبول (2/748) [دار ابن القيم].
[2] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 9)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 35)، واللفظ له.
[3] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 53)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 17).
قال الشافعي رحمه الله: «وكان الإجماع من الصحابة والتابعين من بعدهم ممن أدركناهم أن الإيمان قول وعمل ونية، لا يجزئ واحد من الثلاثة [إلا] بالآخر»[1].
وقال البخاري رحمه الله: «لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدًا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص»[2].
وقال الآجري رحمه الله: «اعلموا ـ رحمنا الله تعالى وإياكم ـ أن الذي عليه علماء المسلمين: أن الإيمان واجب على جميع الخلق، وهو تصديق بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالجوارح، ثم اعلموا أنه لا تجزئ المعرفة بالقلب والتصديق، إلا أن يكون معه الإيمان باللسان نطقًا، ولا تجزئ معرفة بالقلب، ونطق باللسان، حتى يكون عمل بالجوارح، فإذا كملت فيه هذه الخصال الثلاث: كان مؤمنًا، دلَّ على ذلك الكتاب والسُّنَّة وقول علماء المسلمين»[3].
وقال ابن عبد البر رحمه الله: «أجمع أهل الفقه والحديث على أن الإيمان قول وعمل، ولا عمل إلا بنية، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والطاعات كلها عندهم إيمان... وأما سائر الفقهاء من أهل الرأي والآثار بالحجاز والعراق والشام ومصر، منهم: مالك بن أنس، والليث بن سعد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وداود بن علي، وأبو جعفر الطبري، ومن سلك سبيلهم، فقالوا: الإيمان: قول وعمل، قول باللسان وهو الإقرار، اعتقاد بالقلب، وعمل بالجوارح مع الإخلاص بالنية الصادقة، قالوا: وكل ما يطاع الله عزّ وجل به من فريضة ونافلة، فهو من الإيمان»[4].
[1] أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة (5/956 رقم 1593) [دار طيبة، ط8].
[2] أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة رقم (320)، وأورده الزبيدي في إتحاف السادة المتقين (2/256) [ط دار الفكر، بيروت]، وصححه ابن حجر في الفتح (1/66) [دار المعرفة، ط1379هـ].
[3] الشريعة للآجري (2/611) [دار الوطن، ط2].
[4] التمهيد (9/238 ـ 243) [وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب، ط 1387هـ].
أركان الإيمان ترجع إلى ثلاثة أصول: اعتقاد القلب ـ ويدخل فيه الأركان الستة السابقة ـ، وقد تقدم أن اعتقاد القلب يتضمن قول القلب ومعرفته أو تصديقه ويتضمن أعمال القلوب، والركن الثاني: أعمال الجوارح، والركن الثالث: قول اللسان، وهذا بيان تفصيلها:
أولاً: قول القلب: هو معرفته للحق، واعتقاده، وتصديقه، وإقراره، وإيقانه به؛ وهو ما عقد عليه القلب، وتمسك به، ولم يتردد فيه، قال الله تبارك وتعالى : {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ} [المجادلة: 22] ، وقال: {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41] ، وقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ *لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ *} [الزمر] ، «فإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء، فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها، وكونها نافعة»[1].
ثانيًا: قول اللسان: وهو نطق اللسان بذلك التصديق؛ أي: بالشهادتين، إقرارًا والتزامًا بهما، وقول اللسان هو الأصل في ثبوت وصف الإيمان الظاهر، قال تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيْسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ *} [البقرة] .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله»[2].
قال ابن تيمية: «من لم يصدق بلسانه مع القدرة، لا يسمى في لغة القوم مؤمنًا، كما اتفق على ذلك سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان»[3].
وقال: «فمن صدق بقلبه، ولم يتكلم بلسانه فإنه لا يعلق به شيء في أحكام الإيمان، لا في الدنيا، ولا في الآخرة»[4].
والمراد بقول اللسان الذي يكون إيمانًا في الباطن والحقيقة هو الملازم لاعتقاد القلب وتصديقه، وإلا فالقول المجرد عن اعتقاد الإيمان ليس إيمانًا باتفاق المسلمين[5].
ثالثًا: عمل القلب: وهو انقياده بالأعمال المناسبة له؛ كالمحبة والخوف والرجاء[6]. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه»[7].
«وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق، فأهل السُّنَّة مجمعون على زوال الإيمان، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب»[8].
رابعًا: عمل اللسان[9]: وهي العبادات التي تكون باللسان كقراءة القرآن والذكر ونحوها. قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ *} [فاطر]
وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا *} [الأحزاب]
خامسًا: عمل الجوارح: مثل الصلاة، والقيام، والركوع، والسجود، والصيام، والصدقات، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج] .
وهي جزء من مسمى الإيمان، لا يصح بدونها، وأعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب، ولازمة لها، فالقلب «إذا كان فيه معرفة وإرادة، سرى ذلك إلى البدن بالضرورة، لا يمكن أن يختلف البدن عما يريده القلب، ولهذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت، صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب»[10]»[11].
[1] كتاب الصلاة لابن القيم (54).
[2] أخرجه البخاري (كتاب الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة، رقم 7284)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 20).
[3] مجموع الفتاوى (7/337).
[4] مجموع الفتاوى (7/140).
[5] انظر: مجموع الفتاوى (7/550).
[6] انظر: الإيمان لابن منده (2/362) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1406هـ]، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (7/186، 14/119)، ومعارج القبول (2/18) [دار ابن القيم، ط1]، وأعمال القلوب؛ حقيقتها وأحكامها عند أهل السُّنَّة والجماعة، لسهل العتيبي (1/146) [جامعة الإمام، ط1].
[7] أخرجه أبو داود (كتاب الأدب، رقم 4880)، وأحمد (33/20) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وجوّد إسناده العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (661) [دار ابن حزم، ط1]، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 2340) [مكتبة المعارف، ط5].
[8] كتاب الصلاة لابن القيم (54).
[9] كثير من السلف من يكتفي بقول اللسان عن ذكر عمل اللسان، فيجعلونه شاملاً للنطق بالشهادتين وللعبادات القولية من الأذكار ونحوها، ومنهم من فصل بين الأمرين؛ كابن تيمية في الواسطية، وغيره، والخلاف هنا لفظي، انظر: نواقض الإيمان القولية والعملية لعبد العزيز العبد اللطيف (23) [دار الوطن، ط1].
[10] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 52)، ومسلم (كتاب المساقاة، رقم 1599).
[11] مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/187).
مراتب الإيمان ثلاثة:المرتبة الأولى: أصل الإيمان، ويسمى أيضًا بمطلق الإيمان؛ وهو اعتقاد القلب؛ وهو يتضمن أمرين: أحدهما: قول القلب؛ وهو المعرفة، والعلم، والتصديق. والثاني: عمل القلب، وهو الانقياد بالأعمال القلبية؛ كالمحبة، والخضوع، والخشية، والخوف، والرجاء، ونحو ذلك.
قال محمد بن نصر المروزي: «أصل الإيمان هو التصديق، وعنه يكون الخضوع، فلا يكون مصدّقًا إلا خاضعًا، ولا خاضعًا إلا مصدّقًا»[1].
وقال ابن منده: «فأصل الإيمان التصديق بالله، وبما جاء من عنده، وإياه أراد النبي صلّى الله عليه وسلّم بالإيمان أن تؤمن بالله، وعنه يكون الخضوع لله؛ لأنه إذا صدق بالله خضع له، وإذا خضع له أطاع»[2].
وقال ابن تيمية: «فالإيمان في القلب لا يكون إيمانًا بمجرد تصديق ليس معه عمل القلب، وموجبه من محبة الله ورسوله، ونحو ذلك، كما أنه لا يكون إيمانًا بمجرد ظن وهوى، بل لا بد في أصل الإيمان: من قول القلب، وعمل القلب»[3].
وقال أيضًا: «فأصل الإيمان في القلب؛ وهو قول القلب، وعمله، وهو إقرار بالتصديق، والحب والانقياد»[4].
ويدخل في أصل الإيمان: قول اللسان، وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.
قال قوام السُّنَّة الأصفهاني: «قال بعض العلماء: أصل الإيمان: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله، والإقرار لما جاءت له الرسل والأنبياء، وعقد القلب على ما ظهر من لسانه»[5].
وقال ابن تيمية: «فالمؤمن الذي آمن بالله بقلبه وجوارحه إيمانه يجمع بين علم قلبه، وحال قلبه، ـ تصديق القلب، وخضوع القلب ـ ويجمع قول لسانه، وعمل جوارحه، وإن كان أصل الإيمان هو ما في القلب، أو ما في القلب واللسان، فلا بد أن يكون في قلبه التصديق بالله والإسلام له، هذا قول قلبه، وهذا عمل قلبه، وهو الإقرار بالله»[6].
وهذه المرتبة لا بد منها، وفاقد هذه المرتبة خارج عن دائرة الإسلام، كافر بالله العظيم، مستحق للخلود الأبدي في النار، ولسائر أحكام الكفرة في الدنيا والآخرة، ومن ثبتت له هذه المرتبة مع لازمها فهو من أهل الإسلام، يثبت له من أحكامه في الدنيا والآخرة ما يثبت لكل مسلم؛ فإن أصل الإيمان هو الذي يفارق به الكفار ويخرجه من النار[7]، وذلك أن «الكفر ضد لأصل الإيمان؛ لأن للإيمان أصلاً وفرعًا، فلا يثْبت الكفر حتَّى يزول أصل الإيمان الذي هو ضدُّ الكفر»[8]، «فكما أن أصل الإيمان الإقرار بالله، فأصل الكفر الإنكار لله»[9]، ولذا فإنه «لا بد في الإسلام من تصديق يحصل به أصل الإيمان وإلا لم يثب عليه»[10]، «وبهذا تبين أن الرجل قد يكون مسلمًا لا مؤمنًا ولا منافقًا مطلقًا، بل يكون معه أصل الإيمان دون حقيقته الواجبة»[11].المرتبة الثانية: كمال الإيمان الواجب، أو الإيمان الواجب: وهو يتضمن فعل الطاعات الواجبة، واجتناب المحرمات، وهذه المرتبة لا بد لكل مؤمن الإتيان بها، لكن من أخلَّ بشيء منها؛ كمن يترك بعض الواجبات، أو يقع في بعض المحرمات، فإنه لا يخرج عن دائرة الإسلام، بل يكون مؤمنًا ناقص الإيمان.المرتبة الثالثة: كمال الإيمان المستحب، أو الإيمان الكامل بالمستحبات؛ وهو الإتيان بالمستحبات مع فعل الواجبات، واجتناب المكروهات، مع ترك المحرمات، وقد يطلق عليه الإيمان المطلق.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: «وأهل السُّنَّة والحديث يقولون: جميع الأعمال الحسنة واجبها ومستحبها من الإيمان؛ أي: من الإيمان الكامل بالمستحبات، ليست من الإيمان الواجب، ويفرق بين الإيمان الواجب، وبين الإيمان الكامل بالمستحبات، كما يقول الفقهاء: الغسل ينقسم إلى مجزئ وكامل، فالمجزئ ما أتى فيه بالواجبات فقط، والكامل ما أتى فيه بالمستحبات، ولفظ الكمال قد يراد به الكمال الواجب، وقد يراد به الكمال المستحب»[12].
[1] تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/715) [مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط1، 1406هـ].
[2] الإيمان لابن منده (2/347).
[3] مجموع الفتاوى (7/529).
[4] المصدر نفسه (14/119).
[5] الحجة في بيان المحجة (2/288) [دار الراية، ط2].
[6] مجموع الفتاوى (2/382)، وانظر: تعظيم قدر الصلاة (2/516 ـ 519، 712 ـ 715)، وعمدة القاري (1/128) [دار إحياء التراث العربي].
[7] انظر: مختصر الفتاوى المصرية (1/253) [دار ابن القيم]، ومجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية (3/9) [دار الكتب العلمية، ط2، 1412هـ].
[8] تعظيم قدر الصلاة (2/215).
[9] مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/354).
[10] المرجع السابق (7/362).
[11] المرجع السابق (7/525).
[12] مجموع الفتاوى (7/197 ـ 198).
المسائل التي تدخل تحت مسألة الإيمان كثيرة جدًّا، وسيقتصر على ذكر أهمّها:
المسألة الأولى: شُعَب الإيمان:
إن للإيمان شعبًا وخصالاً وأعمالاً، باستكمالها يكمل الإيمان وبنقصها يكون نقصانه، وهذه الشُّعَب أشار إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «الإيمان بضع وستون شعبة: فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان» [1]. يقول ابن القيم رحمه الله: «الإيمان له شعب متعددة، وكل شعبة منها تسمى إيمانًا، فالصلاة من الإيمان، وكذلك الزكاة والحج والصيام، والأعمال الباطنة؛ كالحياء والتوكل والخشية من الله والإنابة إليه، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق فإنه شعبة من شعب الإيمان، وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة، ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتًا عظيمًا، منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب، ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب»[2].
المسألة الثانية: نفي الإيمان:
ورد في نصوص القرآن والسُّنَّة نفي الإيمان، والمراد به أمران:
الأمر الأول: نفي أصل الإيمان، وهذا يلزم منه تكفير صاحبه، وأنه خارج من دائرة الإسلام.
الأمر الثاني: نفي كمال الإيمان، ويراد به كمال الإيمان الواجب، لا كمال الإيمان المستحب[3]، قال ابن تيمية رحمه الله: «فمن قال: إنّ المنفي هو الكمال فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذمّ تاركه ويتعرض للعقوبة فقد صدق، وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله، ولا يجوز أن يقع؛ فإن مَن فعلَ الواجبَ كما وجب عليه، ولم ينتقص من واجبه شيئًا لم يجز أن يقال: ما فعله لا حقيقة ولا مجازًا»[4].
وقال أيضًا: «فإنّ الله ورسوله لا ينفي اسمَ مسمّى أمرٍ ـ أمَرَ الله به ورسوله ـ إلا إذا ترك بعض واجباته؛ كقوله: «لا صلاة إلا بأمّ القرآن» [5]، وقوله: «لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له»[6].
ونحو ذلك. فأما إذا كان الفعل مستحبًّا في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب، فإنّ هذا لو جاز لجاز أن ينفى عن جمهور المؤمنين اسم الإيمان والصلاة والزكاة والحج؛ لأنّه ما من عمل إلا وغيره أفضل منه»[7].
فلهذا يعتقد أهل السُّنَّة أن مرتكب الكبيرة وهو ما يسمى بـ(فاسق أهل القبلة) أو (الفاسق المِلِّي) لا ينفى عنه مطلق الإيمان (أصل الإيمان) بفسوقه، ولا يوصف بالإيمان التام (الإيمان المطلق)، ولكن هو مؤمن ناقص الإيمان. أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته. فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم[8].
أما من ارتكب ناقضًا من نواقض الإسلام، فإنه يُنفى عنه الإيمان بالكلية، ويصير كافرًا خارجًا عن ملة الإسلام.
المسألة الثالثة: العلاقة بين الإيمان الباطن والإيمان الظاهر:
الإيمان الظاهر لازم من اللوازم التي لا تنفك عن الإيمان الباطن، فعمل الباطن يوجب عمل الظاهر ويقتضيه، بحيث لو قُدِّر انتفاء الإيمان الظاهر بالكلية دلَّ على انتفاء الإيمان الباطن الشرعي الذي يخرج به صاحبه من الكفر إلى الإيمان.
وقد تتابعت أقوال السلف في بيان هذا المعنى والتأكيد عليه، والرد على من خالفه، فمن ذلك:
قال إسحاق بن راهويه رحمه الله: «غلت المرجئة، حتى صار من قولهم: إن قومًا يقولون: من ترك المكتوبات، وصوم رمضان، والزكاة، والحج، وعامة الفرائض من غير جحود بها أنّا لا نكفّره، يرجى أمره إلى الله بعد؛ إذ هو مقر، فهؤلاء المرجئة الذين لا شك فيهم»[9].
وقال أبو بكر الآجرّي رحمه الله: «فالأعمال ـ رحمكم الله ـ بالجوارح تصديق عن الإيمان بالقلب واللسان، فمن لم يصدق الإيمان بعمله بجوارحه؛ مثل الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج وأشباه لهذه، ورضي من نفسه بالمعرفة والقول لم يكن مؤمنًا، ولم تنفعه المعرفة والقول، وكان تركه للعمل تكذيبًا لإيمانه، وكان العمل بما ذكرناه تصديقًا منه لإيمانه»[10].
وقال ابن تيمية رحمه الله: «الإيمان عند أهل السُّنَّة قول وعمل، كما دلَّ عليه الكتاب والسُّنَّة، وأجمع عليه السلف، وعلى ما هو مقرر في موضعه، فالقول تصديق الرسول، والعمل تصديق القول، فإذا خلا العبد عن العمل بالكلية لم يكن مؤمنًا، والقول الذي يصير به مؤمنًا قول مخصوص، وهو الشهادتان، فكذلك العمل هو الصلاة... وأيضًا فإن حقيقة الدين هو الطاعة والانقياد، وذلك إنما يتم بالفعل لا بالقول فقط، فمن لم يفعل شيئًا فما دان لله دينًا، ومن لا دين له فهو كافر»[11].
وقد قرَّر ابن تيمية هذا المعنى في مواطن عديدة، فبيّن أن مذهب السلف وأهل السُّنَّة أنه متى وجد الإيمان الباطن وجدت الطاعات[12]، وقرر أن انتفاء أعمال الجوارح مع القدرة والعلم بها لا يكون إلا مع نفاق في القلب وزندقة، لا مع إيمان صحيح، وأنه من الممتنع أن يكون الرجل مؤمنًا إيمانًا ثابتًا في قلبه بأن الله فرض عليه الصلاة والزكاة والصيام والحج ويعيش دهره لا يسجد لله سجدة، ولا يصوم رمضان، ولا يؤدي زكاة، ولا يحج إلى البيت[13].
كما بيّن أن الرجل لا يكون مؤمنًا بالله ورسوله مع عدم شيء من الواجبات التي اختص بإيجابها محمد صلّى الله عليه وسلّم[14]، وأنه إذا انتفت الأعمال لم يبق إيمان في القلب[15]، فقيام الإيمان بالقلب من غير حركة بدن أمر ممتنع[16].
وقال ابن القيم رحمه الله: «والله تعالى أمر عباده أن يقوموا بشرائع الإسلام على ظواهرهم، وحقائق الإيمان على بواطنهم، ولا يقبل واحدًا منهما إلا بصاحبه وقرينه،... فكل إسلام ظاهر لا ينفذ صاحبه منه إلى حقيقة الإيمان الباطنة فليس بنافع حتى يكون معه شيء من الإيمان الباطن، وكل حقيقة باطنة لا يقوم صاحبها بشرائع الإسلام الظاهرة لا تنفع ولو كانت ما كانت، فلو تمزق القلب بالمحبة والخوف ولم يتعبد بالأمر وظاهر الشرع لم ينجه ذلك من النار، كما أنه لو قام بظواهر الإسلام وليس في باطنه حقيقة الإيمان لم ينجه من النار»[17].
وحتى لو تكلم الشخص بالإقرار، ولم يكن ذلك متضمنًا الالتزام والانقياد، فإنه لا يعد داخلاً في الإسلام، ولذا لم ينفع اليهود الذين أقروا للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعلمهم أنه رسول الله؛ لأن ذلك كان منهم على سبيل الإخبار دون الالتزام بالشريعة، وكذلك الحال في أبي طالب.
قال ابن تيمية: «وأيضًا فقد جاء نفر من اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: نشهد إنك لرسول، ولم يكونوا مسلمين بذلك؛ لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم؛ أي: نعلم ونجزم أنك رسول الله، قال: «فلم لا تتبعوني؟» قالوا: نخاف من يهود[18].
فعُلِم أن مجرد العلم والإخبار عنه ليس بإيمان حتى يتكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد، مع تضمن ذلك الإخبار عما في أنفسهم، فالمنافقون قالوا مخبرين كاذبين، فكانوا كفارًا في الباطن، وهؤلاء قالوها غير ملتزمين ولا منقادين، فكانوا كفارًا في الظاهر والباطن، وكذلك أبو طالب قد استفاض عنه أنه كان يعلم بنبوة محمد، وأنشد عنه:
ولقد علمتُ بأنّ دين محمد
من خير أديان البرية دينا
لكن امتنع من الإقرار بالتوحيد والنبوة حبًّا لدين سلفه، وكراهة أن يعيره قومه، فَلَمَّا لم يقترن بعلمه الباطن الحب والانقياد الذي يمنع ما يضاد ذلك من حب الباطل وكراهة الحق لم يكن مؤمنًا»[19].
المسألة الرابعة: أحاديث الوعيد:
أهل السُّنَّة يجرون أحاديث الوعيد على ظاهرها، من غير تعرض لها بتأويل؛ وذلك ليكون أبلغ في الزجر، وأقوى في الردع[20].
وأحاديث الوعيد تبيِّن أن ارتكاب هذا العمل سبب في هذا العذاب، فيستفاد من ذلك تحريم الفعل وقبحه، ولا يلزم وقوع الوعيد بكل شخص قام به ذلك السبب إلا إذا انتفت جميع الموانع؛ وقد قام الدليل على ذكر الموانع، فبعضها بالإجماع، وبعضها بالنص، فالتوبة مانع بالإجماع، والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي لا مدفع لها، والحسنات العظيمة الماحية مانعة، والمصائب الكبار المكفرة مانعة، وإقامة الحدود في الدنيا مانع بالنص، ومن هاهنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات اعتبارًا بمقتضي العقاب ومانعه وإعمالاً لأرجحها[21].
المسألة الخامسة: أحاديث الرجاء:
أحاديث الرجاء هي التي سيقت للدلالة على وعد الله عزّ وجل للمؤمنين والمطيعين بالثواب الجزيل، وأنه أعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ووعدهم بألوان من الأجر والجزاء، ومغفرة الذنوب فيما دون الشرك، وتكفير السيئات، وإبدالها حسنات، ونحو ذلك، ولكن هذه الأحاديث لا تتحقق إلا فيمن آمن بها حقًّا، وانطلقت جوارحه بالعمل بمقتضاها؛ كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من قال في يوم: سبحان الله وبحمده مائة مرة، حطت خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر» [22]. وليس هذا مرتّبًا على مجرد قول اللسان؛ بل لا بد لقائلها أن يتدبر هذه الكلمات ويستحضر معناها، فيواطئ قلبه لسانه، راجيا مع ذلك ثوابها، عندئذ تحط عنه خطاياه بحسب ما في قلبه، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب، فتكون صورة العملين واحدة، وبينهما في التفاضل كما بين السماء والأرض.
وكذلك الشأن في سائر الأحاديث الواردة في هذا المعنى[23].
المسألة السادسة: الفرق بين مذهب أهل السُّنَّة والوعيدية:
الفرق أن أهل السُّنَّة لا يقولون بزوال الإيمان إذا زالت بعض أجزائه، فارتكاب كبيرة لا يخرج من الإيمان، أما الوعيدية من الخوارج والمعتزلة وغيرهم فيرون أن الإيمان يزول بزوال بعض أفراده، حتى ولو كانت من غير أركان الإسلام، فعندهم أن من ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب مثل السرقة، الزنى، شرب الخمر، أنه يخرج من الإيمان وهذا لا يقول به أحد من أهل السُّنَّة، والحمد لله[24].
[1] تقدم تخريجه.
[2] الصلاة وأحكام تاركها (55) [مكتبة الثقافة بالمدينة المنورة]، وانظر: شرح الطحاوية (323) [وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، ط1، 1418هـ].
[3] انظر: تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/612)، [مكتبة الدار، المدينة المنورة، ط1]، وشرح الواسطية لابن عثيمين (2/651)، [مكتبة طبرية، الرياض، ط1].
[4] مجموع الفتاوى (7/15).
[5] أخرجه مسلم (كتاب الصلاة، رقم 394)، بلفظ: «لا صلاة لمن لم يقرأ بأمِّ القرآن».
[6] أخرجه أحمد (19/376) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (كتاب الإيمان، رقم 194)، الأحاديث المختارة (5/74) وقال الضياء: إسناده صحيح. وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 3004) [مكتبة المعارف، ط5].
[7] مجموع الفتاوى (7/14 ـ 15).
[8] معارج القبول (3/1017) [دار ابن القيم، ط1، 1410هـ]، وانظر: مجموع الفتاوى (3/151).
[9] مسائل الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه، لحرب الكرماني (377)، وفتح الباري لابن رجب (1/25).
[10] الشريعة (2/614) [دار الوطن، ط2، 1420هـ]، وانظر: نفس المرجع (2/611).
[11] شرح عمدة الفقه لشيخ الإسلام، كتاب الصلاة (86) [دار العاصمة، ط1، 1418هـ].
[12] مجموع الفتاوى (7/363) [مكتبة ابن تيمية، ط2].
[13] انظر: الإيمان الأوسط ضمن مجموع الفتاوى (7/616).
[14] انظر: المرجع السابق (7/621)
[15] انظر: الإيمان الكبير، ضمن مجموع الفتاوى (7/202، 294)، والإيمان الأوسط ضمن نفس المجموع (7/544، 579).
[16] انظر: الإيمان الأوسط ضمن مجموع الفتاوى (7/556)، وانظر فيما سبق: الإيمان عند السلف وعلاقته بالعمل وكشف شبهات المعاصرين لمحمد بن محمود آل خضير (2/1 ـ 40) [مكتبة الرشد، ط3].
[17] الفوائد (142) [دار الكتب العلمية، ط2، 1393هـ].
[18] أخرجه الترمذي (أبواب الاستئذان والآداب، رقم 2733) وقال: «حسن صحيح»، والنسائي (كتاب تحريم الدم، رقم 4078)، وأحمد (30/21) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم في المستدرك (1/52) وقال: هذا حديث صحيح لا نعرف له علة بوجه من الوجوه، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[19] مجموع الفتاوى لابن تيمية (7/561)، وانظر: زاد المعاد (3/558) [مؤسسة الرسالة، ط14]، ومفتاح دار السعادة (1/93) [دار الكتب العلمية].
[20] انظر: فتاوى اللجنة الدائمة (المجموعة الثانية) (1/335) [رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء].
[21] انظر: رفع الملام عن الأئمة الأعلام (42)، ومدارج السالكين (1/4) [دار الكتاب العربي، ط3، 1416هـ].
[22] أخرجه البخاري في (كتاب الدعوات، رقم 6405). ومسلم (في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، رقم 2691).
[23] انظر: مدارج السالكين (1/339 ـ 340) [دار الكتاب العربي]، ولقاء الباب المفتوح لابن عثيمين (اللقاء رقم: 33).
[24] انظر: معارج القبول (2/602).
الفروق الممكنة المذكورة في مسائل الإيمان ترجع إلى ثلاث مسائل:أولاً: الفرق بين الإسلام والإيمان:
إن من نظر في كلام أئمة السلف وجد أن عباراتهم اختلفت في بيان معنى الإسلام والإيمان، على ثلاثة أقوال:
1 ـ من ذهب إلى التفريق بين الإسلام والإيمان، منهم: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، والحسن، ومحمد بن سيرين، والزهري، وحماد بن زيد، وأحمد[1]. وقد استدلوا بقوله تعالى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] ، ففرق بين قولهم: آمنا وقولهم: أسلمنا، ولكن لما لم يذوقوا طعم الإيمان قال: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} ووعدهم سبحانه وتعالى مع ذلك على طاعتهم أن لا ينقصهم من أجور أعمالهم شيئًا[2]. واستدلوا أيضًا بحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطى رهطًا وسعد جالس، فترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلاً هو أعجبهم إلي، فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنًا، فقال: «أو مسلمًا» . فسكت قليلاً، ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي فقلت: ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنًا، فقال: «أو مسلمًا» ، ثم غلبني ما أعلم منه، فعدت لمقالتي، وعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «يا سعد إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه، خشية أن يكبه الله في النار»[3].
2 ـ من ذهب إلى أن الإسلام والإيمان مترادفان، وأنهما اسمان لمسمى واحد، وهو قول المالكية والشافعية[4].
واحتجوا بقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ *} [الذاريات] ، وبحديث وفد عبد قيس، وفيه: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: «أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم الخمس...»[5].
3 ـ وأما أصحاب القول الثالث فقالوا: إن الإسلام والإيمان بينهما تلازم، بحيث إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، وهذا القول يجمع بين القولين السابقين، ويوضح العلاقة بين الإسلام والإيمان.
قال ابن الصلاح: «فخرج مما ذكرناه وحققناه أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا»[6].
وقال ابن تيمية: «لكن التحقيق ابتداء هو ما بيَّنه النبي صلّى الله عليه وسلّم لما سئل عن الإسلام والإيمان، ففسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة، فليس لنا إذا جمعنا بين الإسلام والإيمان أن نجيب بغير ما أجاب به النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأما إذا أفرد اسم الإيمان فإنه يتضمن الإسلام، وإذا أفرد الإسلام فقد يكون مع الإسلام مؤمنًا بلا نزاع، وهذا هو الواجب»[7].ثانيًا: الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق:
مطلق الإيمان هو أصل الإيمان الذي لا بد منه لكل مؤمن ومسلم، وأما الإيمان المطلق فهو الإيمان الكامل، وهو لا يطلق إلا على المؤمن حقًّا، الذي أتى بما أمره الله به كله، واجتنب ما نهاه عنه كله، ولا يطلق على العاصي إلا مقيدًا، فيقال: مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
يقول ابن تيمية: «ولا يسلبون الفاسق الملي اسم الإيمان بالكلية، ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة؛ بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان في مثل قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ، وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [الأنفال: 2] ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن» [8]، ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم»[9].
ويقول ابن القيم: «فالإيمان المطلق لا يطلق إلا على الكامل الكمال المأمور به، ومطلق الإيمان يطلق على الناقص والكامل، ولهذا نفى النبي صلّى الله عليه وسلّم المطلق عن الزاني، وشارب الخمر، والسارق، ولم ينف عنه مطلق الإيمان»[10].
وقال عبد الرحمن بن حسن ـ بعد ذكره لحديث: «لا يزني الزاني...» ـ: «فالمنفي في هذه الأحاديث كمال الإيمان الواجب، فلا يطلق الإيمان على مثل هذه الأعمال إلا مقيدًا بالمعصية أو بالفسوق، فيكون معه من الإيمان بقدر ما معه من الأعمال الباطنة والظاهرة، فيدخل في جملة أهل الإيمان على سبيل إطلاق أهل الإيمان كقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] .
وأما المؤمن الإيمان المطلق الذي لا يتقيد بمعصية ولا بفسوق وبنحو ذلك، فهو الذي أتى بما يستطيعه من الواجبات مع تركه لجميع المحرمات، فهذا هو الذي يطلق عليه اسم الإيمان من غير تقييد، فهذا هو الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق؛ والثاني هو الذي لا يصر صاحبه على ذنب، والأول هو المصر على بعض الذنوب. وهذا الذي ذكرته هنا هو الذي عليه أهل السُّنَّة والجماعة في الفرق بين الإسلام والإيمان، وهو الفرق بين مطلق الإيمان والإيمان المطلق، فمطلق الإيمان هو وصف المسلم الذي معه أصل الإيمان الذي لا يتم إسلامه إلا به، بل لا يصح إلا به؛ فهذا في أدنى مراتب الدين، إذا كان مصرًّا على ذنب أو تاركًا لما وجب عليه مع القدرة عليه.
والمرتبة الثانية من مراتب الدين: مرتبة أهل الإيمان المطلق الذين كمل إسلامهم وإيمانهم بإتيانهم بما وجب عليهم، وتركهم ما حرمه الله عليهم، وعدم إصرارهم على الذنوب؛ فهذه هي المرتبة الثانية التي وعد الله أهلها بدخول الجنة، والنجاة من النار كقوله تعالى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ *} [الحديد] ، فهؤلاء اجتمعت لهم الأعمال الظاهرة والباطنة، ففعلوا ما أوجبه الله عليهم، وتركوا ما حرم الله عليهم»[11].ثالثًا: الفرق بين كمال الإيمان الواجب، وبين الإيمان الكامل بالمستحبات:
هو أن الأول لا بدَّ لكل مؤمن الإتيان به، لكن من أخلَّ بشيء منه فلا يخرج من دائرة الإسلام، بل يقال عنه: مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه، فاسق بكبيرته، وصاحب هذه المرتبة متعرض للعقوبة والذم والعقاب إن أخلَّ بها، وأما الثاني فالإتيان به هو من كمال الإيمان؛ إذ المستحبات وإن كانت من الإيمان فتركها لا يوجب اللوم أو الذم أو الإثم، وهذه المرتبة أعلى من المرتبة الأولى.
قال ابن تيمية: «فإن أعمال القلوب التي يسميها بعض الصوفية أحوالاً ومقامات أو منازل السائرين إلى الله، أو مقامات العارفين أو غير ذلك، كل ما فيها مما فرضه الله ورسوله فهو من الإيمان الواجب، وفيها ما أحبه ولم يفرضه فهو من الإيمان المستحب، فالأول لا بد لكل مؤمن منه، ومن اقتصر عليه فهو من الأبرار أصحاب اليمين، ومن فعله وفعل الثاني كان من المقربين السابقين»[12].
[1] انظر: الإيمان لابن منده (1/311) [مؤسسة الرسالة، ط2، 1406هـ].
[2] انظر: مدارج السالكين (3/92).
[3] رواه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 27)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 150).
[4] انظر: التمهيد (9/250) [وزارة عموم الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب]، وانظر: تعظيم قدر الصلاة للمروزي (1/418 ـ 424) [مكتبة الدار، ط1].
[5] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 53)، ومسلم (كتاب التوحيد، رقم 17).
[6] صيانة صحيح مسلم (135) [دار الغرب الإسلامي، ط2، 1408هـ].
[7] مجموع الفتاوى (7/259 ـ 260). وانظر للمزيد: معالم السنن (4/315)، والإيمان لابن منده (1/346 ـ 347)، وإكمال المعلم (1/202 ـ 204)، والإيمان بين السلف والمتكلمين للغامدي (29 ـ 40).
[8] أخرجه البخاري (كتاب المظالم والغصب، رقم 2475)، ومسلم: (كتاب الإيمان، رقم 57).
[9] مجموع الفتاوى (3/151)، وانظر: (7/361).
[10] بدائع الفوائد (4/1324) [دار عالم الفوائد].
[11] الإيمان والرد على أهل البدع (4 ـ 5) [دار العاصمة، ط3، 1412هـ].
[12] مجموع الفتاوى (7/190).
من ثمرات تحقيق الإيمان:
ـ الفوز بالجنة والنجاة من النار.
ـ نيل محبة الله تعالى.
ـ حصول البشرى لأهل الإيمان في الدنيا والآخرة.
ـ أن الله يدافع عن أهل الإيمان.
ـ التنعم بالحياة الطيبة.
ـ الفوز بولاية الله تعالى.
ـ حصول هداية القلب.
ـ أهل الإيمان أحق بالأمن من غيرهم.
ـ حصول معية الله الخاصة لهم.
ـ عبادة الله تعالى على نور وبصيرة.
ـ الوعد بالنصر والتمكين.
ـ رفع الدرجات في الدنيا والآخرة.
ـ استغفار الملائكة لأهل الإيمان[1].
[1] انظر: التوضيح والبيان لشجرة الإيمان للسعدي (69 ـ 90) [أضواء السلف، ط1، 1419هـ].
جاء موقف المخالفين لأهل السُّنَّة والجماعة في الإيمان على قسمين:ـ أولاً: الخوارج والمعتزلة الذين قالوا: إن الإيمان قول واعتقاد وعمل، فهم يدخلون الأعمال في الإيمان، لكنهم يعتقدون أن الإيمان كل واحد لا يتجزأ، إذا ذهب بعضه ذهب كله، فالإيمان عندهم لا يزيد ولا ينقص أبدًا، ومن أخلَّ بشيء من الأعمال ذهب إيمانه بالكلية، وهو كافر عند الخوارج، وعند المعتزلة هو في منزلة بين المنزلتين، إلا أنه في الآخرة مخلد في النار عند الطائفتين[1].
وفساد هذا القول ظاهر؛ فإن نصوص الكتاب والسُّنَّة ـ التي تقدم شيء منها ـ دالة وصريحة على تبعض الإيمان وتفاضله وزيادته ونقصانه.ـ ثانيًا: المرجئة الذين يخرجون العمل من الإيمان، وهؤلاء على أصناف ثلاثة:
الأول: صنف يقولون: الإيمان مجرد المعرفة القلبية. وهذا لا شك قول باطل يلزم منه أن يكون إبليس وفرعون ومن في حكمهما مؤمنين كاملي الإيمان. ومنهم من يقول: هو مجرد التصديق، وهم أكثر المرجئة.
الثاني: صنف يقولون: هو مجرد قول اللسان، وهذا هو قول الكرامية.
الثالث: صنف يقولون: هو تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو قول مرجئة الفقهاء[2].
وهذه الأقوال جميعها شذت عن الحق وخالفت الصواب الوارد في الكتاب والسُّنَّة، والمنقول عن سلف الأمة في تعريف الإيمان وأنه شامل للأقوال والاعتقادات والأعمال، وقولهم هو الحق الذي لا ريب فيه، وقول ما عداهم هو الباطل لبعده عن الكتاب والسُّنَّة.
[1] انظر: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (632) [مكتبة وهبة، ط3]، والفصل في الملل والنحل لابن حزم (3/188) [دار المعرفة، ط2]، وأصول الدين للبغدادي (249) [مطبعة الدولة باستانبول، ط1346هـ]، وانظر أيضًا: مجموع الفتاوى لابن تيمية (13/48).
[2] انظر: الملل والنحل للشهرستاني (141 ـ 145) [مطبعة الحلبي، ط1387هـ]، ومقالات الإسلاميين للأشعري (1/114 ـ 121) [المكتبة العصرية]، ومجموع الفتاوى لابن تيمية (7/195).
1 ـ «أصول الإيمان»، لمحمد بن عبد الوهاب.
2 ـ «الإيمان»، لأبي بكر ابن أبي شيبة.
3 ـ «الإيمان»، لابن منده.
4 ـ «الإيمان بين السلف والمتكلمين»، للغامدي.
5 ـ «الإيمان ومعالمه وسننه واستكماله ودرجاته»، لأبي عبيد القاسم بن سلام.
6 ـ «زيادة الإيمان ونقصانه وحكم الاستثناء فيه»، لعبد الرزاق البدر.
7 ـ «التوضيح والبيان لشجرة الإيمان»، للسعدي.
8 ـ «الجامع لشعب الإيمان»، لأبي بكر البيهقي.
9 ـ كتاب «الإيمان من صحيحي البخاري ومسلم».
10 ـ «مجموع الفتاوى» (ج7)، لابن تيمية.