حرف الألف / أيوب عليه السلام

           

أيوب عليه عليه السلام هو ابن موص ـ وقيل: أموص ـ ابن رزاح ـ وقيل: رازح، وقيل: ابن رغويل ـ ابن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام[1]، وهذا هو المشهور؛ لأنه من ذرية إبراهيم عليه السلام، كما قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ} [الأنعام: 84] ، ووجه الدلالة: أن الضمير في قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} عائد على إبراهيم عليه السلام دون نوح عليه السلام على الصحيح[2]، وقيل: إن أباه كان ممن آمن بإبراهيم عليه السلام[3]، ومعنى هذا أنه ليس من ذرية إبراهيم عليه السلام. والصحيح: أنه من ذرية العيص بن إسحاق، كما يقول ابن كثير[4].
وذكر بعضهم أن أيوب عليه السلام جاء بعد يونس عليه السلام[5]، وقيل: إن أيوب كان نبيًّا في عهد يعقوب[6] وقيل: إنه كان بعد سليمان بن داود، وقيل غير ذلك[7]، وذكروا أن من ولده من اسمه: بشر، وهو الذي يزعم كثير من الناس أنه ذو الكفل الذي بعثه الله نبيًّا[8].


[1] انظر: تاريخ الرسل والملوك للطبري (1/194) [دار الكتب العلمية، ط1]، وقصص الأنبياء المسمَّى بالعرائس (168) [مكتبة الجمهورية العربية، الأزهر]، والمنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي (1/320) [دار الكتب العلمية، ط1، 1412هـ]، والمختصر في أخبار البشر لأبي الفداء عماد الدين إسماعيل بن علي (1/16) [المطبعة الحسينية المصرية، ط1]، وتاريخ ابن الوردي (1/16) [دار الكتب العلمية، ط1، 1417هـ].
[2] انظر: البداية والنهاية لابن كثير (1/506).
[3] انظر: المعارف لابن قتيبة (42) [الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط2، 1992م]، وتاريخ الرسل والملوك للطبري (1/194)، والمنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي (1/320)، والبداية والنهاية (1/506).
[4] انظر: البداية والنهاية (1/506).
[5] انظر: المصدر نفسه (1/507).
[6] انظر: المختصر في أخبار البشر (1/16).
[7] انظر: الإتقان في علوم القرآن (2/130) [الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1394هـ].
[8] انظر: تاريخ الطبري (1/195)، والمختصر في أخبار البشر (1/16)، والبداية والنهاية (1/515)، والإتقان في علوم القرآن (2/130).


اختلف في أيوب؛ أهو عربي أم عبراني؟ فقال بعضهم: إنه لا يعرف معناه على التحقيق، وقال بعضهم: إنه قريب من اللفظ العربي (آيب)، فربما يعني: الراجع إلى الله، أو التائب، وبعضهم يرى أن أيوب عليه السلام كان عربيًّا، وكان ساكنًا في أرض حوران بالشام، وعلى كل فإذا كان هذا الاسم عربيًّا يكون (فيعولاً) من الأوب، ولعل سبب منعه من الصرف هو مجيئه مع أسماء أنبياء آخرين عن طريق العبرية إلى العربية فعومل معاملتها[1].


[1] انظر: المعرب من كلام الأعجمي على حروف المعجم للجواليقي (107) [دار القلم، ط1، 1410هـ]، والإعلام بأصول الأعلام الواردة في قصص الأنبياء للدكتور ف. عبد الرحيم (55 ـ 56) [دار القلم، ط1، 1413هـ].


أيوب عليه السلام هو من جملة أنبياء الله الذين نصَّ كتاب الله الكريم على إيحاء الله إليهم، قال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا *} [النساء: 163] .



ذكر غير واحد من المؤرخين أن أيوب عاش بعد زوال المرض عنه سبعين سنة في بلاد الشام على الحنيفية السمحة ملة إبراهيم عليه السلام مع قومه، وبعد موته غيَّر أتباعه ملة إبراهيم[1].


[1] انظر: البداية والنهاية (1/514) [دار هجر، ط1، 1422هـ]، وصحيح قصص الأنبياء لسليم الهلالي (233) [دار غراس، ط1]، وقصص الأنبياء ومناقب القبائل من التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن (157) [المكتبة المكية، ومؤسسة الريان، ط1، 1418هـ].


ذكر المؤرخون أن نبي الله أيوب عاش بالشام بعد زوال البلاء والمرض عنه سبعين سنة، ثم مات عن ثلاث وتسعين سنة. وقيل: إنه عاش أكثر من ذلك، والله أعلم[1].


[1] انظر: تاريخ الطبري (1/195)، والبداية والنهاية (1/514 ـ 515).


المسألة الأولى: ابتلاء أيوب عليه السلام وصبره عليه، وبيان ما أكرمه الله به من معجزة عظيمة في شفائه:
لقد ابتلي نبي الله أيوب عليه السلام ابتلاء عظيمًا لثمان عشرة سنة بأمراض شديدة في بدنه كله سوى قلبه ولسانه، وابتلي في ماله وولده، حيث كان له من الدواب والأنعام والحرث والولد شيء كثير ومنازل مرضية، ففقد كل ذلك، وعافه الجليس ونفر منه الأنيس، ولم يجد من يحنو عليه، ويقوم بخدمته، سوى رجلين من إخوانه وزوجته، التي حفظت له سابقته من الإحسان إليها وشفقته عليها، فكانت ترعاه وتعينه على أموره وتطعمه حتى نفد ما عندها، فكانت تخدم الناس لتطعمه، وهو صابر محتسب على ذلك كله، مقبل على الله يلهج بذكره وشكره[1]، حتى أصبح مضرب المثل في الصبر فيما بعد، وثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه» [2]. وقد أخبر الله تعالى بأن أيوب عليه السلام كان مبتلًى صابرًا وأثنى عليه سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ *} [ص] ، وتوجه إلى ربه بالدعاء والاستغاثة والإلحاح في سؤاله؛ لرفع البلاء عنه، كما حكى الله ذلك بقوله جلّ جلاله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ *} [الأنبياء] ، وقال الله عزّ وجل: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ *} [ص] .
أخرج الطبري بسند حسن[3] عن قتادة في هذه الآية الأخيرة أنه قال: «ذهاب المال والأهل، والضر الذي أصابه في جسده»[4].
وعن أنس بن مالك؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن نبي الله أيوب لبث به بلاءه ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه، كانا من أخص إخوانه له، كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه: تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين. قال له صاحبه: وما ذاك؟ قال: منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه ربه فيكشف ما به. فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: لا أدري ما تقول، غير أن الله عزّ وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلا في حق» ، قال: «وكان يخرج في حاجته، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يرجع»[5].
فرحمه الله، واستجاب دعاءه، وكشف ما به من ضر، وأزال عنه البلاء، وأكرمه ببعض النعم، كما قال الله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ *} [الأنبياء] .
جاء عن الحسن وقتادة بسند حسن[6]؛ أنهما قالا في قوله سبحانه: {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ}: «أحيا الله أهله بأعيانهم، وزاده إليهم مثلهم»[7].
وقال الله عزّ وجل: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ *وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُِولِي الأَلْبَابِ *وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ *} [ص] .
ففي هذه الآية ـ كما جاء عن قتادة بسند حسن[8] ـ أمر الله نبيّه أيوب عليه السلام أن يضرب برجله أرضًا يقال لها: الجابية[9]، فضربها برجله، فإذا عينان تنبعان، فشرب من إحداهما، واغتسل من الأخرى[10].
وجاء في حديث أنس الطويل وفيه: «فلما كان ذات يوم أبطأت عليه فأوحى الله إلى أيوب في مكانه أن: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ *} [ص] فاستبطأته فتلقته تنظر، وأقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء، وهو على أحسن ما كان، فلما رأته قالت: أي بارك الله فيك؛ هل رأيت نبي الله هذا المبتلى؟ فوالله على ذلك ما رأيت رجلاً أشبه به منك إذ كان صحيحًا. قال: فإني أنا هو، قال: وكان له أندران؛ أندر للقمح وأندر للشعير، فبعث الله سحابتين فلما كانت إحداهما على أندر القمح أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الوَرِق حتى فاض»[11].
قال ابن كثير: «وقوله: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42] ؛ أي: اضرب الأرض برجلك، فامتثل ما أمر به، فأنبع الله له عينًا باردة الماء، وأمر أن يغتسل فيها، ويشرب منها، فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والأذى والسقم والمرض، الذي كان في جسده ظاهرًا وباطنًا، وأبدله الله بعد ذلك كله صحة ظاهرة وباطنة، وجمالاً تامًّا، ومالاً كثيرًا، حتى صب له من المال صبًّا مطرًا عظيمًا جرادًا من ذهب، وأخلف الله له أهله»[12].
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينما أيوب يغتسل عريانًا خرَّ عليه رِجْلُ جرادٍ من ذهب، فجعل يحثي في ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب، ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لي عن بركتك»[13].
المسألة الثانية: مدة مكثه عليه السلام في البلاء:
اختلف أهل العلم في مدة مكث أيوب عليه السلام في البلاء، فقيل: إنها ثلاث سنين لا تزيد ولا تنقص. وقيل: سبع سنين وأشهرًا[14]، وذكر بعضهم أنها ثماني عشرة سنة[15]، وهذا هو الصحيح؛ لحديث أنس بن مالك؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن نبي الله أيوب لبث به بلاؤه ثماني عشرة سنة»[16].
المسألة الثالثة: رخصة الله لعبده أيوب في حلفه على جلد زوجه مِائة جلدة:
هذه المسألة ذكرها غير واحد من المؤرخين[17] وكذا بعض المفسرين في تفسير قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44] .
وخلاصتها: أن نبي الله أيوب حلف في أثناء مرضه على جلد زوجه مِائة جلدة، واختلف في سبب الجلد؛ فقيل: لبيعها ضفائرها حين نفد كل ما عندها في أثناء مرض زوجها نبي الله أيوب عليه السلام، وقيل: لاعتراض الشيطان عليها في صورة طبيب، يصف لها دواء لأيوب عليه السلام فجاءته وأخبرته الخبر، فعلم عليه السلام أنه الشيطان، ولما عافاه الله رخَّص الله له وخفف على زوجه، فأمره الله أن يضربها بما يبر قسمه ولا يحنث، ولا يضر زوجه الصابرة المحتسبة، وهو أن يأخذ حزمة تصل المائة من عيدان الأعشاب الرطبة فيضربها مرة واحدة[18]، وهذه رخصة من الله أكرم الله بها نبيّه أيوب عليه السلام.
قال ابن جرير في تفسير الآية: «وقلنا لأيوب: خذ بيدك ضغثًا، وهو ما يجمع من شيء مثل حزمة الرطبة، وكملء الكف من الشجر أو الحشيش والشماريخ ونحو ذلك مما قام على ساق»[19].


[1] انظر: البداية والنهاية (1/507 ـ 508).
[2] أخرجه الترمذي (أبواب الزهد، رقم 2398) وصححه، وابن ماجه (كتاب الفتن، رقم 4023)، وأحمد (3/78) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم في المستدرك (كتاب الإيمان، رقم 120)، وقال الألباني: «هذا سند جيد». السلسلة الصحيحة (رقم 143).
[3] انظر: الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور لحكمت بشير ياسين (4/226) [دار المآثر، المدينة النبوية ط1].
[4] تفسير الطبري (20/106) [دار هجر، ط1].
[5] أخرجه ابن جرير في تفسيره (20/109 ـ 110) [دار هجر، ط1]، وابن حبان في صحيحه (كتاب الجنائز، رقم 2898)، والحاكم في المستدرك (كتاب تواريخ المتقدمين من الأنبياء والمرسلين، رقم 4115) وصححه، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1/53 ـ 54) [مكتبة المعارف، ط1، 1415هـ].
[6] انظر: الصحيح المسبور (4/226).
[7] انظر: تفسير الطبري (16/366).
[8] انظر: الصحيح المسبور (4/226).
[9] انظر: تفسير الطبري (20/107).
[10] انظر: تفسير الطبري (20/108).
[11] تقدم تخريجه.
[12] البداية والنهاية (1/513).
[13] أخرجه البخاري (كتاب أحاديث الأنبياء، رقم 3391).
[14] انظر: تفسير الطبري (20/106)، والمنتظم في التاريخ (1/323).
[15] وانظر لجميعها: البداية والنهاية (1/509).
[16] تقدم تخريجه تحت المسألة الأولى.
[17] انظر: المنتظم في التاريخ (1/322)، والبداية والنهاية لابن كثير (1/514).
[18] انظر: المنتظم لابن الجوزي (1/320)، والبداية والنهاية لابن كثير (1/514)، وصحيح قصص الأنبياء للشيخ سليم الهلالي (233).
[19] تفسير الطبري لابن جرير الطبري (20/111).


1 ـ «المعارف»، لابن قتيبة.
2 ـ «تفسير الطبري» (ج20).
3 ـ «تاريخ الرسل والملوك» (ج1)، للطبري.
4 ـ «قصص الأنبياء المسمّى بالعرائس»، للثعلبي.
5 ـ «المنتظم في تاريخ الأمم والملوك» (ج1)، لابن الجوزي.
6 ـ «الكامل في التاريخ» (ج1)، لابن الأثير.
7 ـ «المختصر في أخبار البشر» (ج1)، لأبي الفداء عماد الدين إسماعيل بن علي.
8 ـ «البداية والنهاية» (ج1)، لابن كثير.
9 ـ «صحيح (قصص الأنبياء لابن كثير)»، لسليم الهلالي.
10 ـ «قصص الأنبياء ومناقب القبائل من (التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن)»، لأحمد حاج محمد عثمان.