قال ابن فارس رحمه الله: «الباء والراء والهمزة فأصلان إليهما ترجع فروع الباب؛ أحدهما: الخلق؛ يقال: برأ اللهُ الخلقَ يبرؤهم برءًا، والبارئ: اللهُ جلَّ ثناؤه؛ قال الله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] ... والأصل الآخر: التباعد من الشيء ومزايلته؛ من ذلك البُرء، وهو السلامة من السقم»[1].
وبرأ اللهُ الخلقَ، من باب قطع، فهو البارئ، والبرية الخلق، تركوا همزَها إن لم تكن من البري[2]، وأصل البرء: خلوص الشيء عن غيره، إما على سبيل التقصّي منه، وعليه قولهم: برأ فلان من مرضه، والمديون من دينه، ومنه استبرأت الجارية، وقيل: البارئ: الخالق؛ البريء من التفاوت والتنافر المخلَّين بالنظام، وإما على سبيل الإنشاء، ومنه: برأ الله النسمة[3].
[1] مقاييس اللغة (1/236) [دار الجيل، ط1420هـ].
[2] انظر: مختار الصحاح (18) [مكتبة لبنان، 1415هـ].
[3] انظر: فتح الباري (13/391) [دار المعرفة، بيروت].
قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ *} [الحشر] .
وقال تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ *} [البقرة] ؛ أي: خالقكم[1].
عن أبي جحيفة رضي الله عنه قال: قلت لعلي: هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال: «والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أعلمه إلا فهمًا يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة». قلت: وما في الصحيفة؟ قال: «العقل وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر»[2].
[1] انظر: تفسير الطبري (1/685) [دار هجر، ط1]، ومعالم التنزيل (1/96) [دار طيبة، ط1409هـ].
[2] أخرجه البخاري (كتاب الجهاد والسير، رقم 3047).
قال ابن جرير الطبري رحمه الله: «البارئ الذي برأ الخلق فأوجدهم»[1].
وقال الزجاج رحمه الله: «البارئ؛ يقال: برأ اللهُ الخلقَ، فهو يبرؤهم برءًا؛ إذا فطرهم»[2].
وقال ابن القيم رحمه الله: «البارئ المصور: تفصيل لمعنى اسم الخالق»[3].
[1] تفسير الطبري (23/555).
[2] تفسير أسماء الله الحسنى للزجّاج (37) [دار الثقافة].
[3] شفاء العليل (121) [دار الفكر، بيروت، 1398هـ].
لم يزل ولا يزال الربّ تعالى متّصفًا بالبَرء، والخلق، والتدبير، فلم يستفد بإحداث البرية اسم الباري، كما أنه ليس بعد أن خلق الخلق استفاد اسم الخالق، وهذا مبني على أصل إثبات الصفات الاختيارية المتعلقة بمشيئة الله تعالى وقدرته.
قال أبو جعفر الطحاوي رحمه الله تعالى: «ليس منذ خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداث البريَّة استفاد اسم الباري»[1].
قال الشيخ عبد العزيز الراجحي: «المعنى: أن أسماء الله سبحانه وتعالى اسمه الخالق، واسمه الباري، ولم يزل له هذا الاسم، والبارئ؛ أي: الذي خلق الخلق، وبرأ البرية وأحدثها، ولم يزل له الأسماء الحسنى؛ لأنه سبحانه وتعالى قادر على الفعل في أي وقت»[2].
قال السعدي رحمه الله: «الخالق البارئ المصور: الذي خلق جميع الموجودات وبرأها، وسوّاها بحكمته، وصورها بحمده وحكمته، وهو لم يزال ولا يزال على هذا الوصف العظيم»[3].
[1] العقيدة الطحاوية ضمن شرحها لابن أبي العز الحنفي (1/109) [مؤسسة الرسالة، ط13، 1419هـ].
[2] الهداية الربانية في شرح العقيدة الطحاوية (1/88) [دار التوحيد، ط1، 1430هـ].
[3] تفسير أسماء الله الحسنى (170).
الفرق بين البارئ والخالق والمصور:
ذكر أهل العلم فروقًا بين هذه الأسماء، حاصلها: أن الخالق هو مقدر الأشياء أولاً، والبارئ: هو الإيجاد على وفق ذلك التقدير، والمصور: هو اختراع صور الأشياء، وترتيبها في الوجود على أحسن الوجوه، قال ابن القيم رحمه الله: «البارئ المصور تفصيل لمعنى اسم الخالق، فالله سبحانه إذا أراد خلق شيء قدره بعلمه وحكمته، ثم برأه؛ أي: أوجده وفق ما قدره في الصورة التي شاء سبحانه»[1].
وقال ابن كثير رحمه الله: «الفرق بين الخالق والبارئ أن الخلق التقدير، والبرء هو الفري، وهو التنفيذ، وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدر شيئًا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله سبحانه وتعالى. قال زهير بن أبي سلمي يمدح رجلاً:
ولأنت تفري ما خلقت وبعـ
ـض القوم يخلق ثم لا يفري
أي: أنت تنفذ ما خلقت؛ أي: قدرت، بخلاف غيرك فإنه لا يستطيع ما يريد، فالخلق: التقدير، والفري: التنفيذ، ومنه يقال: قدر الجلاد ثم فرى؛ أي: قطع على ما قدره بحسب ما يريده»[2].
وقد ظن بعض الناس أن هذه الأسماء مترادفة، وليس كذلك؛ قال محمد خليل هراس: «والحاصل أن هذه الأسماء الثلاثة ليست مترادفة على معنى واحد، بل لكل منها معنى يخصه، وهي متكاملة لا بد منها جميعًا على هذا الترتيب؛ فالخلق أولاً؛ لأنه تقدير الأشياء على إحكام واستواء، ثم البرء ثانيًا؛ لأنه الإبراز والإيجاد على وفق التقدير السابق، ثم التصوير ثالثًا؛ لأنه اختراع صور الأشياء وترتيبها في الوجود على أحسن الوجوه»[3].
[1] شفاء العليل (121).
[2] انظر: تفسير ابن كثير (4/344 ـ 345) [دار الفكر].
[3] عقيدتنا عقيدة القرآن والسُّنَّة (166) [دار الكتاب والسُّنَّة، ط1، 1424هـ].
1 ـ «تفسير أسماء الله الحسنى»، للزجاج.
2 ـ «اشتقاق أسماء الله»، للزجاجي.
3 ـ «تفسير أسماء الله الحسنى»، للسعدي.
4 ـ «معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الله الحسنى»، لمحمد بن خليفة التميمي.
5 ـ «النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى»، لمحمد حمود النجدي.
6 ـ «أسماء الله الحسنى»، للغصن.
7 ـ «القواعد المثلى»، لابن عثيمين.
8 ـ «الأسئلة والأجوبة الأصولية»، لعبد العزيز السلمان.
9 ـ «فقه أسماء الله الحسنى»، لعبد الرزاق البدر.