حرف الباء / البدعة

           

البدعة من: بَدَعَ، وتأتي على معنيين؛ أحدهما: ابتداء الشي لا عن مثال سابق، والثاني: الانقطاع والكلال؛ قال ابن فارس رحمه الله: «الباء والدال والعين أصلان: أحدهما: ابتداء الشيء وصنعُه لا عَنْ مِثال، والآخر: الانقطاع والكَلال»[1].
ويدل على المعنى الأول: قوله تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام: 101] ؛ أي: خالقهما ومحدثهما ومنشئهما على غير مثال سابق[2].
وأما المعنى الثاني: فيدل عليه ما جاء في السُّنَّة في حديث الهدي: «فأزحفت عليه بالطريق فعيَّ لشأنها إن هي أبدعت»[3]؛ أي: انقطعت عن السير بكلال، أو ظلع؛ كأنه جعل انقطاعها عمَّا كانت مستمرة عليه من عادة السير؛ أي: إنشاء أمر خارج عمَّا اعتيد منها[4].


[1] مقاييس اللغة (1/209) [دار الجيل، بيروت].
[2] انظر: تفسير الطبري (9/457) [دار هجر]، وتفسير ابن كثير (6/122) [مؤسسة قرطبة، ط1].
[3] أخرجه مسلم (كتاب الحج، رقم 1325).
[4] انظر: لسان العرب (1/343) [دار إحياء التراث العربي، ط3، 1419هـ].


«البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله، وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب، وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله»[1].
ويقول الشاطبي رحمه الله في تعريف البدعة: «هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية»[2].


[1] مجموع الفتاوى (4/107 ـ 108) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف في المدينة المنورة، 1416هـ].
[2] الاعتصام (1/43) [الدار الأثرية، ط2، 1428هـ].


البدعة في اللغة أعم منها في الشرع كما يظهر من خلال التعريفين اللغوي والشرعي؛ ذلك أن البدعة في اللغة هي ما أحدث لا على مثال سابق، وسواء كانت محمودة أو مذمومة، والبدعة في الشرع هي إحداث أمر في الدين، وليس لها نظير فيما سلف، وهي لا تكون إلا مذمومة[1].


[1] انظر: تفسير الطبري (2/464)، والاعتصام للشاطبي (1/41)، واقتضاء الصراط المستقيم (2/593) [مكتبة الرشد]، وفتح الباري (13/253) [دار المعرفة].


سميت البدعة بدعة؛ لأنها أحدثت على غير مثال سابق؛ أي: أن صاحبها ابتدأ طريقة في الدين لم يسبق إليها، ولهذا سمي المبتدع في الدين مبتدعًا؛ لإحداثه فيه ما لم يسبق إليه غيره[1].


[1] انظر: تفسير الطبري (2/446)، وتفسير ابن كثير (6/122)، والاعتصام (1/41).


البدع كلها مذمومة منهي عنها في الشرع، فلا توجد بدعة حسنة كما يزعم محسّنو البدع؛ لأن البدع مصادمة للشريعة مضادة لها، فهي مذمومة على كل حال[1].


[1] انظر: الاعتصام (1/321 ـ 322)، وجامع العلوم والحكم (1/266).


هي طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية، فيدخل فيها العبادات والعادات، وقيدت بالابتداع في الدين؛ لأن صاحبها إنما يضيفها إلى الدين، فيخرج ما كان مخترعًا لأجل الدنيا؛ كإحداث الصنائع والوسائل، ونحوها، ويخرج كذلك ما كان من العلوم النافعة المستحدثة؛ كعلم النحو والصرف، وغيرها من العلوم الخادمة للشريعة؛ إذ لها أصولها في الشرع، وهذه مما تدخل تحت المصالح المرسلة.
قال الشاطبي: «من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع ولا من قواعده؛ إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثم بدعة، ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها أو المخير فيها»[1].


[1] انظر: الاعتصام (1/321 ـ 322).


قال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ *} [الحديد] .
وقال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ *} [الشورى] .
ومن السُّنَّة: حديث عائشة رضي الله عنها؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [1]، وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»[2].
وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: «فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة»[3].
ومنها كذلك حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وفيه؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثير فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسَّكوا بها وعَضّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة»[4].


[1] أخرجه البخاري (كتاب الصلح، رقم 2697)، ومسلم (كتاب الأقضية، رقم 1718).
[2] أخرجه مسلم (كتاب الأقضية، رقم 1718).
[3] أخرجه مسلم (كتاب الجمعة، رقم 867).
[4] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4607)، والترمذي (أبواب العلم، رقم 2676) وصححه، وابن ماجه (المقدمة، رقم 42)، وأحمد في مسنده (28/373) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/871) [المكتب الإسلامي، ط1، 1409هـ].


قال ابن عمر رضي الله عنهما: «كل بدعة ضلالة وإن رآها الناس حسنة»[1].
قال أبو قلابة رحمه الله: «ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف»[2].
قال ابن الماجشون رحمه الله: سمعت مالكًا يقول: «من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة زعم أن محمدًا صلّى الله عليه وسلّم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فما لم يكن يومئذ دينًا، فلا يكون اليوم دينًا»[3].
قال شيخ الإسلام: «ولهذا قال طائفة من السلف ـ منهم الثوري ـ: البدعة أحبّ إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها. وهذا معنى ما روي عن طائفة أنهم قالوا: إن الله حجر التوبة على كل صاحب بدعة، بمعنى: أنه لا يتوب منها؛ لأنه يحسب أنه على هدى ولو تاب لتاب عليه كما يتوب على الكافر. ومن قال: إنه لا يقبل توبة مبتدع مطلقًا فقد غلط غلطًا منكرًا، ومن قال: ما أذن الله لصاحب بدعة في توبة، فمعناه: ما دام مبتدعًا يراها حسنة لا يتوب منها، فأما إذا أراه الله أنها قبيحة فإنه يتوب منها كما يرى الكافر أنه على ضلال؛ وإلا فمعلوم أن كثيرًا ممن كان على بدعة تبين له ضلالها وتاب الله عليه منها، وهؤلاء لا يحصيهم إلا الله»[4].


[1] أخرجه المروزي في السُّنَّة (29) [مؤسسة الكتب الثقافية، ط1]، ابن بطة في الإبانة الكبرى (1/339) [دار الراية]، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد (1/104) [دار طيبة، ط8]، وسنده صحيح.
[2] رواه الدارمي في سننه (1/58).
[3] الاعتصام للشاطبي (1/61) [دار ابن عفان، ط1].
[4] مجموع الفتاوى (11/684 ـ 685).


يشترط في البدعة أن تكون مما لا أصل لها في الدين، وأما إن كان لها أصل في الشريعة فهذه لا تدخل تحت مسمى البدعة، بل هي تدخل تحت المصالح المرسلة النافعة.
قال ابن رجب رحمه الله: «والمراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغة»[1].
وقال ابن حجر رحمه الله: «والمراد بها ما أحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة، فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة، سواء كان محمودًا أو مذمومًا»[2].


[1] جامع العلوم والحكم (21/781) [دار السلام، ط2].
[2] فتح الباري (13/253) [دار المعرفة، بيروت].


تعددت تقسيمات أهل العلم للبدعة، وذلك لاعتبارات مختلفة، منها ما هو معتبر في الشرع، ومنها ما هو غير معتبر في الشرع:
فبالاعتبار الأول: وهو ما كان تقسيمه معتبر شرعًا، فيدخل فيه عدة تقسيمات:
1 ـ تقسيم البدعة إلى شرعية ولغوية[1]؛ فالشرعية هي ما تدخل تحت قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» [2]، واللغوية كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن جمعه للصحابة لصلاة التراويح جماعة والاستمرار عليه: «نعم البدعة هذه»[3].
2 ـ تقسيم البدعة إلى بدعة حقيقية وبدعة إضافية: فالبدعة الحقيقية هي التي لم يدل عليها دليل شرعي لا من كتاب ولا من سُنَّة، ولا من إجماع، أو قياس، وهي في الأصل بمعنى البدعة المعرفة التعريف الشرعي، ومن أمثلتها التي ذكرها أهل العلم: بدعة قراءة القرآن بالإدارة على صوت واحد، وبدعة المولد النبوي، وغيرها، وهذه وإن كانت أقرب إلى البدع الإضافية، لكن لما صارت تلك الأوصاف ملازمة لها صارت من البدع الحقيقية.
وأما البدعة الإضافية: فهي التي لها شائبتان: إحداهما: لها من الأدلة متعلق، فلا تكون من تلك الجهة بدعة.
والأخرى: ليس لها تعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية، ومن أمثلته: الجهر بالنية في الصلاة، وكرفع الصوت بالتكبير عند قراءة الآية، وغيرها[4].
3 ـ تقسيم البدعة إلى بدعة مكفرة، وبدعة غير مكفرة؛ أي: مفسقة[5]؛ فالبدعة المكفرة: هي التي يلزم منها إنكار أمر مجمع عليه، أو متواتر من الشرع، أو معلوم من الدين بالضرورة، أو نحو ذلك؛ كبدعة الجهمية، والقدرية الغلاة، وأما البدعة غير المكفرة: فهي التي لا يلزم منها تكذيب بالكتاب، ولا بشيء مما أرسل الله به رسله، ونحوها.
وهناك تقسيمات أخرى: كتقسيمهم البدعة إلى بدعة تعبدية وبدعة عادية، وإلى بدعة مركبة وبسيطة، وإلى فعلية وتركية، وغيرها من التقسيمات الكثيرة[6].
وأما بالاعتبار الثاني ـ وهو ما لم يكن تقسيمه معتبرًا شرعًا ـ فيدخل فيه أيضًا هو عدة تقسيمات:
1 ـ تقسيم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة، وهذا التقسيم يذكره محسّنو البدع، ليسوّغوا ما هم عليهم من البدع المنكرة، ويستدلون ببعض الأحاديث والآثار.
فمن أشهر الأحاديث التي يستدلون بها: حديث عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سَنَّ في الإسلام سُنَّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سُنَّة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء»[7].
وهذا الحديث خارج محل النزاع؛ إذ إن سببه يبين المقصود؛ فقد ورد في الحث على الصدقة، فأصل الفعل مشروع، يوضحه ما جاء في بيان سبب وروده في أوله؛ حيث قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: «كنا عند رسول الله في صدر النهار، قال: فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النِّمار أو العباء متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعّر وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما رأى بهم من الفاقة فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذَّن وأقام فصلى ثم خطب فقال: «{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] إلى آخر الآية: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا *} والآية التي في الحشر: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره، من صاع تمره ـ حتى قال: ولو بشق تمرة» . قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرَّة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتهلل كأنه مذهبَةٌ» ثم ذكر الحديث السابق[8].
ومن أشهر الآثار التي يستدلون بها قول عمر رضي الله عنه في اجتماع الناس على صلاة التراويح: «نِعْم البدعة هذه »[9].
وهذا باطل من أوجه؛ أهمها:
أولاً: أن النبي كان قد صلى التراويح جماعة في أول أيام رمضان ثم تركها خشية أن تفرض على أمته، فلا يطيقونها، فصلاة التراويح جماعة لها أصل شرعي من سُنَّة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.
قال ابن تيمية رحمه الله: «فأما صلاة التراويح فليست بدعة في الشريعة، بل هي سُنَّة... ولا صلاتها جماعة بدعة؛ بل هي سُنَّة في الشريعة؛ بل قد صلاَّها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الجماعة في أول شهر رمضان ليلتين بل ثلاثًا، وصلاَّها أيضًا في العشر الأواخر في جماعة مرات»[10].
وقال ابن رجب: «ومراده: أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت، ولكن له أصل من الشريعة يرجع إليها؛ فمنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يحث على قيام رمضان، ويرغب فيه، وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانًا، وهو صلّى الله عليه وسلّم صلى بأصحابه في رمضان غير ليلة، ثم امتنع من ذلك معللاً ذلك بأنه خشي أن يكتب عليهم، فيعجزوا عن القيام به، وهذا قد أُمن بعده صلّى الله عليه وسلّم»[11].
ثانيًا: المراد بقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «نِعْمَ البدعة» هذه البدعة اللغوية لا الشرعية؛ لأن البدعة في اللغة تعم كل ما ليس له مثال سابق، وأما البدعة الشرعية فهي كل ما لم يدل عليها دليل من الشرع، أو ما ليس له أصل في الدين.
قال ابن تيمية رحمه الله: «ثم نقول أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية؛ وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق وأما البدعة الشرعية فكل ما لم يدل عليه دليل شرعي»[12].
2 ـ تقسيم البدعة على وفق الأحكام التكليفية الخمسة[13]: بدعة واجبة، وبدعة مندوبة، وبدعة مستحبة، وبدعة مكروهة، وبدعة محرمة، وهو تقسيم مبتدع، لا أصل له؛ إذ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة» [14] قاعدة شرعية كلية تبطل جميع البدع المحدثة في الدين، التي ليس لها أصل ترجع إليه.
قال ابن رجب رحمه الله: «فقوله صلّى الله عليه وسلّم: «كل بدعة ضلالة» من جوامع الكلم، لا يخرج عنه شيء، وهو أصل عظيم من أصول الدين، وهو شبيه بقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» [15]، فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين، يرجع إليه فهو ضلالة، والدين بريء منه، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال، أو الأقوال الظاهرة والباطنة»[16].
وقال الشاطبي: «هذا التقسيم أمر مخترع لا يدل عليه دليل شرعي، بل هو في نفسه متدافع؛ لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي لا من نصوص الشرع ولا من قواعده؛ إذ لوكان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لما كان ثم بدعة، ولكان العمل داخلاً في عموم الأعمال المأمور بها أو المخير فيها، فالجمع بين تلك الأشياء بدعًا، وبين كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متنافيين»[17].
وقال ابن حجر رحمه الله: «وقوله: «كل بدعة ضلالة» قاعدة شرعية كلية بمنطوقها ومفهومها، أما منطوقها فكأن يقال حكم كذا بدعة، وكل بدعة ضلالة، فلا تكون من الشرع؛ لأن الشرع كله هدى، فإن ثبت أن الحكم المذكور بدعة صحت المقدمتان وأنتجتا المطلوب، والمراد بقوله: «كل بدعة ضلالة» ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام»[18].


[1] انظر: تفسير ابن كثير (2/116).
[2] أخرجه مسلم (كتاب الجمعة، رقم 867).
[3] أخرجه البخاري (كتاب صلاة التراويح، رقم 2010).
[4] انظر: الاعتصام (2/127) [الدار الأثرية، ط2]، وحقيقة البدعة وأحكامها (2/7 ـ 35).
[5] انظر: معارج القبول (2/617) [الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد].
[6] أكثر من عرف عنه الاعتناء بتقاسيم البدعة الشاطبي في كتابه الاعتصام، وكل من جاء بعده فإنما اتبعه في ذلك، ولمزيد من التفصيل ينظر: حقيقة البدعة وأحكامها لسعيد الغامدي (2/192) [مكتبة الرشد].
[7] أخرجه مسلم (كتاب الزكاة، 1017).
[8] أخرجه مسلم (كتاب الزكاة، 1017).
[9] تقدم تخريجه قريبًا.
[10] اقتضاء الصراط المستقيم (2/591).
[11] جامع العلوم والحكم (2/784).
[12] اقتضاء الصراط المستقيم (2/593).
[13] انظر: قواعد الأحكام (2/172 ـ 174) [دار الكتب العلمية]، حاشية ابن عابدين (1/560) [دار الفكر، بيروت، 1421هـ]، وشرح الزرقاني على الموطأ (1/340) [دار الكتب العلمية، ط1]، وعمدة القاري شرح صحيح البخاري (11/126) [دار إحياء التراث العربي].
[14] تقدم تخريجه قريبًا.
[15] تقدم تخريجه قريبًا.
[16] جامع العلوم والحكم (1/266).
[17] الاعتصام (1/321 ـ 322).
[18] فتح الباري (13/253) [دار المعرفة، بيروت].


المسألة الأولى: دخول البدعة في الأمور العادية:
اختلف أهل العلم في وقوع الابتداع في الأمور العادية؛ فذهب أكثر أهل العلم إلى أن الابتداع لا يدخل في الأمور العادية مطلقًا. وذهب بعض العلماء ومنهم: العز بن عبد السلام والقرافي رحمهم الله إلى أن البدع تدخل في الأمور العادية مطلقًا[1].
وذهب بعض أهل العلم؛ منهم: ابن تيمية[2] وابن رجب[3] والشاطبي رحمهم الله إلى التوسط بين القولين، وهو التفصيل في المسألة بمعنى: أن الابتداع لا يدخل في الأمور العادية إلا من جهة ما فيها من معنى التعبد[4]. قال الشاطبي رحمه الله: «وإنّ العاديات من حيث هي عادية لا بدعة فيها، ومن حيث يتعبد بها أو توضع وضع التعبد تدخلها البدعة، وحصل بذلك اتفاق القولين وصار المذهبان مذهبًا واحدًا وبالله التوفيق»[5].
فالذي يترجح «أنّ البدع لا تدخل في العادات والمعاملات إلا من الوجه العبادي فيها، فإذا ألحق المكلف حكمًا شرعيًّا، أو قصد الطاعة والأجر والثواب بعمل هو في حقيقته الشرعية ليس كذلك فقد ابتدع»[6].
المسألة الثانية: حكم المبتدع:
أولاً: حكم المبتدعة على سبيل الإجمال من ناحية دخولهم في الإسلام أو عدمه، فهم على نوعين:
1 ـ من أهل البدع من يكون زنديقًا منافقًا فهذا كافر خارج عن الإسلام، وهذا يكثر في الرافضة والجهمية.
2 ـ ومن أهل البدع من لا يكون كافرًا ولا منافقًا، بل من المسلمين، فمن هؤلاء من يكون فيه إيمان باطنًا وظاهرًا، بكون فيه جهل وظلم، حتى أخطأ ما أخطأ من السُّنَّة، وقد يكون عاصيًا، أو فاسقًا، وقد يكون مخطئًا متأولاً، مغفورًا له خطؤه، وقد يكون مع هذا معه من الإيمان والتقوى ما يكون معه من ولاية الله تعالى بقدر إيمانه وتقواه، وقد يكون مجتهدًا مخطئًا يغفر الله خطأه، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته، وهؤلاء قد لا تكون مقالتهم كفرًا بنفسها.
وقد تكون مقالتهم كفرًا، ولكن لا يحكم على قائلها المعين بالكفر حتى تقوم عليه الحجة الرسالية التي يكفر تاركها، فيكون قائلها معذورًا؛ كمن لم يبلغه الخطاب؛ كحديث العهد بالإسلام، أو من نشأ ببادية بعيدة[7].
ثانيًا: حكم المبتدعة من أهل القبلة من جهة الشهادة لهم بالجنة والنار، فهذا ينظر إليه من جهتين:
الأولى: جهة العموم، يقال: إن الفرق المبتدعة قد جاء الوعيد بأنها في النار، وذلك في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة»[8].
وفي رواية: «كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة»[9].
فيحكم على هذه الفرق الثنتين والسبعين بالهلاك واستحقاق النار على سبيل العموم، وهذا الاستحقاق لا يعني التخليد في النار كخلود الكافرين، بل هو وعيد كالوعيد الذي جاء لأصحاب الكبائر من أهل القبلة، من مثل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا *} [النساء] .
والأخرى: جهة التعيين، فإنه لا يحكم للواحد المعين من هؤلاء بأنه في النار، «وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد يجب أن يكون هالكًا، فإن المنازع قد يكون مجتهدًا مخطئًا يغفر الله خطأه، وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم به عليه الحجة، وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتناولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول والقانت وذو الحسنات الماحية والمغفور له وغير ذلك فهذا أولى»[10].
ثالثًا: الأحكام المترتبة على حكم المبتدع:
فمن الأحكام المترتبة على الحكم على المبتدع: الصلاة على المبتدع، والدعاء له، والاستغفار له، والصلاة خلفه، وقبول روايته، وقتله، وقبول توبته، ونحوها فالكلام فيها طويل، وقد وقع الخلاف في بعضها، والقول المختصر فيها أن يقال:
من كانت بدعته بدعة مكفرة، فهذا لا يصلى عليه، ولا يدعى له، ولا يستغفر له، ولا يصلى خلفه، ولا ينكح، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ونحو ذلك، وهذا ما ورد عن أئمة السلف في الجهمية، والرافضة.
قال الإمام البخاري رحمه الله: «وسئل عبد الله بن إدريس عن الصلاة خلف أهل البدع فقال: لم يزل في الناس إذا كان فيهم مرضيّ أو عَدلٌ فصلِّ خلفه. قلت: فالجهمية؟ قال: لا؛ هذه من المَقاتل؛ هؤلاء لا يُصلّى خلفهم، ولا يناكحون وعليهم التوبة»[11].
وقال أيضًا: «ما أبالي صليت خلف الجهمي والرافضي، أم صليت خلف اليهود والنصارى، ولا يسلم عليهم، ولا يعادون، ولا يناكحون، ولا يشهدون، ولا تؤكل ذبائحهم»[12].
وأما من كانت بدعته بدعة مفسقة، أو غير مكفرة، فهذا إن كان داعية إلى بدعته، أو مظهرًا لها، فلا تقبل روايته، ويهجر، ويؤدب ويعاقب من طرف الحاكم، لكن يصلى عليه إذا مات، ويستغفر له، ويدفن في مقابر المسلمين، ونحو ذلك، فيعامل معاملة أصحاب الكبائر من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأما إن لم يكن داعية إلى بدعته، وكان متسترًا بها، فهذا يعامل معاملة المسلمين في الظاهر.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فبهذا ونحوه[13] رأى المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع، الداعين إليها، والمظهرين للكبائر، فأما من كان مستترًا بمعصية أو مُسرًّا لبدعة غير مكفرة، فإن هذا لا يهجر، وإنما يهجر الداعي إلى البدعة؛ إذ الهجر نوع من العقوبة، وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولاً أو عملاً، وأما من أظهر لنا خيرًا فإنا نقبل علانيته، ونكل سريرته إلى الله تعالى، فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقبل علانيتهم، ويكل سرائرهم إلى الله، لما جاؤوا إليه عام تبوك، يحلفون ويعتذرون، ولهذا كان الإمام أحمد رحمه الله، وأكثر من قبله وبعده من الأئمة، كمالك رحمه الله، وغيره، لا يقبلون رواية الداعي إلى بدعته، ولا يجالسونه، بخلاف الساكت، وقد أخرج أصحاب الصحيح عن جماعات ممن رمي ببدعة من الساكتين، ولم يخرجوا عن الدعاة إلى البدع»[14].


[1] انظر: المبتدعة وموقف أهل السُّنَّة والجماعة منهم لمحمد يسري (49).
[2] انظر: مجموع الفتاوى (4/195).
[3] انظر: جامع العلوم والحكم له (57) [دار المعرفة].
[4] انظر: المصدر السابق (49).
[5] حقيقة البدعة وأحكامها، لسعيد الغامدي (2/124) [مكتبة الرشد، الرياض، ط1، 1412هـ].
[6] انظر: جامع العلوم والحكم (49).
[7] انظر: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (3/179، 350 ـ 354) (23/345).
[8] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4596)، وابن ماجه (كتاب الفتن، رقم 3992)، والترمذي (أبواب الإيمان، رقم 2640) وقال: حسن صحيح، وأحمد في مسنده (14/124) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب الإيمان، رقم 10)، وصححه ابن تيمية في مجموع الفتاوى (3/345)، والألباني في الصحيحة (رقم 203).
[9] أخرجه بهذه الزيادة: ابن ماجه (كتاب الفتن، رقم 3993)، وابن أبي عاصم في السُّنَّة (1/32) [المكتب الإسلامي، ط1]، من حديث أنس رضي الله عنه، وصحح إسناده البوصيري في مصباح الزجاجة (4/180) [دار العربية، ط2]، والألباني في ظلال الجنة (1/32).
[10] المناظرة في الواسطية ضمن مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (3/179).
[11] خلق أفعال العباد (17) [مؤسسة الرسالة، ط3].
[12] خلق أفعال العباد (13).
[13] أي: بما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من هجر كعب بن مالك وصاحبيه، وما ورد في أمر عمر بن الخطاب مع صبيغ بن عسل التميمي حيث أمر المسلمين بهجره.
[14] مجموع الفتاوى (24/174).


الفرق بين البدع والمصالح المرسلة:
يظهر الفرق من عدة أوجه؛ أهمها[1]:
1 ـ ترجع المصالح المرسلة في غالب أحوالها إلى أصل شرعي من الكتاب أو السُّنَّة أو الإجماع، وأما البدع فلا أصل شرعي لها تعود إليه.
2 ـ تعود المصالح المرسلة عند ثبوتها إلى جلب المنافع، ودفع المضار، فهي وسائل تعود إلى تحقيق مقاصد الشريعة، وهذا بخلاف البدع فإنها تعود على الفرد والمجتمع بالمفاسد الدنيوية والأخروية، وتفوت عليهم المصالح الدنيوية والأخروية.
3 ـ موضوع المصالح المرسلة يكون فيما عقل معناه على التفصيل، وهذا لا يكون إلا في العادات والمعاملات، وأما العبادات فلا يعقل معناها على التفصيل، وفيها تكثر البدع، هذا وإن كانت العادات والمعاملات إنما يدخلها الابتداع من جهة ما فيها من التعبد لا بإطلاق.


[1] انظر: الاعتصام (1/38، 185، 192) (2/111، 162)، واقتضاء الصراط (2/590 ـ 163)، وحقيقة البدعة وأحكامها (2/187).


مما لا شكَّ فيه أن للبدعة آثارًا سيئة على الفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة:
فمن آثارها: حلول العقاب من الله تعالى إما في الدنيا وإما في الآخرة؛ لأنها سُنَّة الله في خلقه، كما قال عزّ وجل: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ *} [الروم] .
ومنها: تهاون الناس بشرائع الدين المشروعة، وإماتة السنن المأثورة؛ لأنه كلما أحييت البدع، انطفأ نور السُّنَّة، فاستبدل الناس الذي هو أدنى بالذي هو خير.
ومنها: أن البدع تجلب لأصحابها اللعنة من الله تعالى، ومن الملائكة، ومن الناس، كما ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «المدينة حرم فمن أحدث فيها حدثًا أو آوى مُحدِثًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة عدل ولا صرف» [1]، وهذا وإن كان خاصًّا بالمدينة إلا أن فيه الوعيد الشديد لأصحاب البدع، وما يترتب على بدعهم من النكال والتقريع.
ومنها: أن أصحاب البدع يمنعون ويذادون عن حوض النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة كما قال النبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم: «ألا ليُذادنَّ رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك. فأقول: سحقًا سحقًا»[2].


[1] أخرجه البخاري (كتاب فضائل المدينة، رقم 1870)، ومسلم (كتاب الحج، رقم 1370)، واللفظ له.
[2] أخرجه البخاري (كتاب المساقاة، رقم 2367)، ومسلم (كتاب الطهارة، رقم 249)، واللفظ له.


1 ـ «الاستقامة»، لابن تيمية.
2 ـ «مجموع الفتاوى» (ج4)، لابن تيمية.
3 ـ «الاعتصام»، لأبي إسحاق الشاطبي.
4 ـ «جامع العلوم والحكم»، لابن رجب.
5 ـ «فتح الباري»، لابن حجر.
6 ـ «حقيقة البدعة وأحكامها»، لسعيد الغامدي.
7 ـ «الحوادث والبدع»، لأبي بكر الطرطوشي.
8 ـ «البدع والنهي عنها»، لابن وضاح.
9 ـ «الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع»، للسيوطي.
10 ـ «المبتدعة وموقف أهل السُّنَّة والجماعة منهم»، لمحمد يسري.