حرف الباء / بديع السماوات والأرض

           

«أبْدعْتُ الشيء قولاً أو فعلاً؛ إذا ابتدأته لا عن سابق مثال»[1]، و« البَدْع: إحداث شيء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة»[2]، و« البديع: يقال: أبدعت الشيء إبداعًا؛ إذا جئت به فردًا لم يشاركك فيه غيرك، وهذا بديع من فعل فلان؛ أي: مما يتفرد به»[3]، وقال عزّ وجل: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} [البقرة] «أي: مبتدعها ومبتدئها لا على مثال سبق، قال أبو إسحاق: يعني: أنه أنشأها على غير حذاء ولا مثال»[4].
بديع السماوات والأرض: مبدعهما، وإنما هو (مُفْعِل) فصُرف إلى (فَعِيل)، كما صُرف المؤلم إلى الأليم، والمسمع إلى السميع، وأصل بصير: مبصر من قول القائل: أبصرت فأنا مبصر، ولكن صرف إلى فعيل، كما صرف مسمع إلى سميع، وعذاب مؤلم إلى أليم، ومبدع السماوات إلى بديع وما أشبه ذلك[5].


[1] مقاييس اللغة (1/209) [دار الفكر، 1399هـ].
[2] كتاب العين (2/54) [دار ومكتبة الهلال].
[3] تفسير أسماء الله الحسنى للزجّاج (64) [دار المأمون].
[4] تاج العروس (20/307) [دار الهداية].
[5] انظر: تفسير الطبري (1/431) [دار الفكر].


إن الله سبحانه وتعالى هو مبدع السماوات ومحدثها على غير مثال سابق، المنفرد بذلك تعالى، الذي أحسن كل شيء صنعًا[1].


[1] المستدرك على فتاوى ابن تيمية (1/37) [جمع وترتيب: محمد بن عبد الرحمن بن قاسم، ط1، 1418هـ].


قال الإمام البخاري رحمه الله: «فاطر، والبديع، والمبدىء، والبارئ، والخالق واحد»[1].


[1] انظر: صحيح البخاري (6/2564) [دار ابن كثير، اليمامة، بيروت، ط3، 140].


يجب الإيمان بأن الله سبحانه وتعالى بديع السماوات والأرض، الذي أحسن كل شيء صنعًا.



للبديع ثلاثة معانٍ:
المعنى الأول: المبدع والمنشئ للسماوات والأرض على غير مثال سابق، قال الطبري: «يعني جلَّ ثناؤه بقوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 117] : مبدعها... ومعنى المبدع: المنشئ والمحدث ما لم يسبقه إلى إنشاء مثله وإحداثه أحد، ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعًا، لإحداثه فيه ما لم يسبقه إليه غيره»[1].
المعنى الثاني: المنفرد بخلق السماوات والأرض: روى الطبري رحمه الله في «تفسيره» عن الربيع قال: «{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ابتدع خلقها، ولم يشركه في خلقها أحد»[2]، وأخرج ابن أبي حاتم بسنده عن أبي العالية: يعني قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}: ابتدع خلقها ولم يشركه في خلقها أحد»[3].
فالبديع مِن أبدعتَ الشيء إبداعًا؛ إذا جئت به فردًا لم يشاركك فيه غيرك، وهذا بديع من فعل فلان؛ أي: مما يتفرد به، وقال تعالى: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أراد به: أنه المنفرد بخلق السماوات والأرض[4].
المعنى الثالث: أنه يدل على إتقان وإحكام خلق السماوات والأرض: قال السعدي رحمه الله: «{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}؛ أي: خالقهما ومبدعهما في غاية ما يكون من الحسن، والخلق البديع، والنظام العجيب المحكم»[5].
ويؤخذ من اسم {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} صفة البدع، بمعنى: المبدع والمنشئ للخلق على غير مثال سابق، قال ابن منظور رحمه الله: «فبديع فعيل بمعنى فاعل، مثل قدير بمعنى قادر، وهو صفة من صفات الله تعالى؛ لأنه بدأ الخلق على ما أراد على غير مثال تقدمه»[6].


[1] تفسير الطبري (2/540) [مؤسسة الرسالة].
[2] تفسير الطبري (2/541).
[3] الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور (1/222) [دار المآثر، المدينة النبوية، ط1، 1420هـ].
[4] انظر: تفسير أسماء الله الحسنى للزّجّاج (64)، ولسان العرب (8/6).
[5] تفسير السعدي (948) [مؤسسة الرسالة، ط1].
[6] لسان العرب (8/6).


ورد اسم {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} مرتين في كتاب الله تعالى، في قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} [البقرة] ، وقوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ *} [الأنعام] ، وجاء في السُّنَّة من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه؛ أنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالسًا ورجل يصلي ثم دعا: اللَّهُمَّ إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لقد دعا الله باسمه العظيم الذي إذا دعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى»[1].
أقوال أهل العلم:
قال ابن تيمية رحمه الله: «البديع: لم يقع إلا مضافًا في قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} في موضعين، بديع؛ أي: مبدعهما»[2].
وهذا الاسم من الأسماء المضافة، وممن يعده كذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، قال: «وكذلك أسماؤه المضافة مثل: أرحم الراحمين، وخير الغافرين، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، وأحسن الخالقين، وجامع الناس ليوم لا ريب فيه، ومقلب القلوب، وغير ذلك، مما ثبت في الكتاب والسُّنَّة، وثبت في الدعاء بها بإجماع المسلمين»[3].
وعده السعدي رحمه الله في الأسماء الحسنى في تفسيره[4].
والمتأمل في الحديث السابق يجد أن {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ورد مع أسماء الله الحسنى في سياق الدعاء، وفيه: «اللَّهُمَّ إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت، المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم».


[1] أخرجه أبو داود (كتاب الصلاة، رقم 1495)، والترمذي (أبواب الدعوات، رقم 3544)، والنسائي (كتاب السهو، رقم 1300)، وابن ماجه (كتاب الدعاء، رقم 3858)، وابن حبان (كتاب الرقائق، رقم 893)، والحاكم (كتاب الدعاء، رقم 1856) وصححه، وصححه الألباني في صحيح أبي داود (5/233) [مؤسسة غراس للنشر والتوزيع، ط1، 1423هـ].
[2] المستدرك على فتاوى ابن تيمية (1/37).
[3] مجموع الفتاوى (22/485).
[4] انظر: تفسير السعدي (948).


المسألة الأولى: قيل: إن اسم الله الأعظم: يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام[1]:
لما ذكر ابن حجر رحمه الله اختلاف الآثار في تعيين الاسم الأعظم قال: «وجملة ما وقفت عليه من ذلك أربعة عشر قولاً»، ثم ذكر منها القول السادس والسابع وفيها اسم «بديع السماوات والأرض» مع أسماء أخرى، فقال: «السادس: الحنان، المنان، بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، الحي القيوم، ورد ذلك مجموعًا في حديث أنس عند أحمد والحاكم، وأصله عند أبي داود والنسائي، وصححه ابن حبان، السابع: بديع السماوات والأرض، ذو الجلال والإكرام، أخرجه أبو يعلى[2] من طريق السري بن يحيى عن رجل من طي، وأثنى عليه»[3].
المسألة الثانية: الحكمة من إضافة الله تعالى الإبداع للسماوات والأرض:
لما أضاف الله تعالى الإبداع لأعظم المخلوقات التي يشاهدها الإنسان، ولا تغيب عنه دل على كمال قوة الله وحكمته، قال ابن عثيمين: «إذن {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 117] يستفاد منها القوة، والقدرة، والحكمة»[4].
المسألة الثالثة: تسمية الله عزّ وجل بالبديع:
عدَّ جمع من أهل العلم (البديع) ضمن أسماء الله تعالى كما ورد في طريق الوليد بن مسلم عند الترمذي[5]، وابن حبان[6]، والحاكم[7].
وقد عدَّه في الأسماء كل من: ابن منده[8]، والبيهقي[9]، والخطابي[10]، وابن حجر[11].
ولم يثبته ابن العربي[12]، والأصبهاني[13]، وابن حزم[14]، وابن عثيمين[15].
والصواب: أنه لا يثبت اسمًا من أسماء الله تعالى لما يأتي:
1 ـ لم يرد (البديع) اسما مفردًا في النصوص، وعمدة من اعتمده حديث الأسماء، فإن الذين أثبتوا اسم (البديع) إنما قلدوا الرواية المشهورة عند الترمذي من طريق الوليد بن مسلم وهي ضعيفة.
2 ـ أن الذين أثبتوا اسم (البديع) إنما أطلقوه بطريق الاشتقاق، وهذا الاسم لم يرد إطلاقه في النصوص؛ بل جاء مضافًا، قال ابن تيمية رحمه الله: «البديع: لم يقع إلا مضافًا في قوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 117] في موضعين، بديع؛ أي: مبدعهما»[16]، وقد سبق بيان أن الأسماء المضافة لا يصح قطعها عن إضافتها عند اسم (الأحكم).


[1] انظر: تاج العروس (20/307).
[2] أخرجه أبو يعلى في مسنده (13/165) [دار المامون، ط1]، من طريق السري بن يحيى عن رجل من طيء ـ وأثنى عليه خيرًا ـ قال: كنت أسأل الله عزّ وجل أن يريني الاسم الذي إذا دعي به أجاب، فرأيت مكتوبًا في الكواكب في السماء: «يا بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام». قال الهيثمي: «رجاله ثقات». مجمع الزوائد (10/158) [مكتبة القدسي]، لكن لا يخفى أنه غير مرفوع.
[3] فتح الباري (11/224) [دار المعرفة]، وقد ذكره أيضًا: الطحاوي في بيان مشكل الآثار (1/96) [مؤسسة الرسالة]، والبغوي في شرح السُّنَّة (5/36) [المكتب الإسلامي]، وابن تيمية في جامع المسائل (3/286) [دار عالم الفوائد]، وابن القيم في جلاء الأفهام (152) [دار العروبة، ط2]، ومحمد آبادي في عون المعبود (4/254) [دار الكتب العلمية، ط2].
[4] تفسير القرآن للعثيمين (4/13).
[5] جامع الترمذي (كتاب الدعوات، رقم 3507).
[6] صحيح ابن حبان (كتاب الرقاق، رقم 808).
[7] المستدرك (كتاب الإيمان، رقم 41)، وقد تقدم في (مبحث الأسماء الحسنى) أن هذا الحديث ضعيف، وأن سرد الأسماء إدراج من بعض رواته، وسيأتي التنبيه على ذلك قريبًا.
[8] التوحيد (2/89).
[9] في الأسماء والصفات (1/70).
[10] شأن الدعاء (96).
[11] فتح الباري (11/219).
[12] أحكام القرآن (2 / 808) [دار الجيل].
[13] الحجة في بيان المحجة (1 / 166) [دار الراية].
[14] المحلى (6 / 282) [دار الكتب العلمية، 1408 هـ].
[15] القواعد المثلى (15) [دار ابن القيم، ط1، 1406 هـ].
[16] المستدرك على فتاوي ابن تيمية (1 / 37).


الفرق بين الإبداع والخلق:
1 ـ قيل: الإبداع أعم من الخلق، فالإبداع يكون في إيجاد الشيء من لا شيء، وإيجاده من شيء، وأما الخلق فهو إيجاد شيء من شيء، ولذا قال: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 117] ، وقال: {خَلَقَ الإِنْسَانَ} [النحل: 4] ولم يقل بدع الإنسان[1].
2 ـ وقيل: الخلق كذلك يستعمل كاستعمال الإبداع، فيستعمل فيما في إيجاد الشيء من لا شيء، وإيجاده من شيء سابق. فالخلق أصله التقدير المستقيم، ويستعمل في إبداع الشيء من غير أصل ولا احتذاء[2].
وذكر ابن القيم أن هاهنا ألفاظًا وهي: فاعل وعامل ومكتسب وكاسب وصانع ومحدث وجاعل ومؤثر ومنشئ وموجد وخالق وبارئ ومصور وقادر ومريد، وهذه الألفاظ ثلاثة أقسام: لم يطلق إلا على الرب سبحانه، كالبارئ والبديع والمبدع. وقسم لا يطلق إلا على العبد، كالكاسب والمكتسب. وقسم وقع إطلاقه على الرب والعبد كاسم: صانع وفاعل وعامل ومنشئ ومريد وقادر، وأما الخالق والمصور فإن استُعملا مطلقين غير مقيدين لم يُطلقا إلا على الرب؛ كقوله: {الْخَالِقُ الْبَارِىءُ الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24] ، وإن استُعملا مقيَّدين أُطلقا على العبد، كما يقال لمن قدر شيئًا في نفسه أنه خلقه... وبهذا الاعتبار صح إطلاق خالق على العبد، في قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ *} [المؤمنون: 14] ؛ أي: أحسن المصورين والمقدرين... قال مجاهد رحمه الله: يصنعون ويصنع الله، والله خير الصانعين... وقال مقاتل رحمه الله: يقول تعالى هو أحسن خلقًا من الذين يخلقون التماثيل وغيرها، التي لا يتحرك منها شيء، وأما البارئ فلا يصح إطلاقه إلا عليه سبحانه، فإنه الذي برأ الخليقة، وأوجدها بعد عدمها، والعبد لا تتعلق قدرته بذلك، إذ غاية مقدوره التصرف في بعض صفات ما أوجده الرب تعالى وبراه، وتغييرها من حال إلى حال على وجه مخصوص، لا تتعداه قدرته، ليس من هذا بريت القلم؛ لأنه معتل لا مهموز، ولا برأت من المرض؛ لأنه فعل لازم غير متعد، وكذلك مبدع الشيء وبديعه لا يصح إطلاقه إلا على الرب، كقوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 117] ، والإبداع إيجاد المبدع على غير مثال سبق، والعبد يسمى مبتدعًا لكونه أحدث قولاً لم تمض به سُنَّة، ثم يقال لمن اتبعه عليه: مبتدع أيضًا[3].


[1] انظر: التعريفات (21) [دار الكتاب العربي، ط1]، والكليات للكفوي (19) [مؤسسة الرسالة].
[2] مفردات ألفاظ القرآن للراغب (157) [دار القلم].
[3] انظر: شفاء العليل (1/24 ـ 25) [دار الفكر].


1 ـ «تفسير أسماء الله الحسنى»، للزجّاج.
2 ـ «جامع المسائل» (ج3)، لابن تيمية.
3 ـ «شرح ابن القيم لأسماء الله الحسنى»، لعمر الأشقر.
4 ـ «شرح أسماء الله الحسنى في ضوء الكتاب والسُّنَّة»، لسعيد القحطاني.
5 ـ «أسماء الله الحسنى»، للغصن.
6 ـ «القواعد المثلى»، لابن عثيمين.
7 ـ «اشتقاق أسماء الله»، للزجاجي.
8 ـ «معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في أسماء الله الحسنى»، لمحمد بن خليفة التميمي.
9 ـ «النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى»، لمحمد حمود النجدي.