قال ابن فارس رحمه الله: «الباء والراء في المضاعف أربعة أصول: الصدق، وحكاية صوت، وخلاف البحر، ونبت»[1]. فمن الصدق قولهم: برَّت يمينه: صدقت، وأبرَّها: أمضاها على الصدق، والبِرّ: خلاف العقوق، يقال: فلان يبر خالقه، ويتبرره يطيعه، والبر: الصلة، والجنة، والخير، والاتساع في الإحسان والحج، ويقال: برَّ حجك وبُر: بفتح الباء وضمها فهو مبرور[2].
[1] مقاييس اللغة (89) [دار إحياء التراث العربي، ط1].
[2] مقاييس اللغة (89)، والصحاح (3/150) [دار العلم للملايين، ط4]، والقاموس المحيط (327) [دار إحياء التراث العربي، ط2].
هو بالمعنى العام: فعل جميع الطاعات الظاهرة والباطنة، وبالمعنى الخاص: معاملة الخلق بالإحسان إليهم. قال ابن تيمية: «لفظ: (البر) إذا أطلق تناول جميع ما أمر الله به»[1]. وقال ابن رجب: «لأن البر يطلق باعتبارين: أحدهما: باعتبار معاملة الخلق بالإحسان إليهم... والمعنى الثاني: من معنى البر: أن يراد به فعل جميع الطاعات الظاهرة والباطنة»[2].
[1] مجموع الفتاوى (7/165) [مجمع الملك فهد لطباعة المصحف]، وانظر: الرسالة التبوكية (6 ـ 8).
[2] جامع العلوم والحكم (302 ـ 303) [مؤسسة فؤاد بعينو، ط1، 1424هـ].
حقيقة البِر هو الكمال المطلوب من الشيء والمنافع التي فيه والخير، كما يدل عليها اشتقاق هذه اللفظة وتصاريفها في الكلام[1].
وإذا أفرد البر كان المراد به الدين كله، وكان مسماه مسمى التقوى، فهي كلمة جامعة لجميع أنواع الخير، والكمال المطلوب من العبد، ويقابله الإثم، وإذا اقترن البر بالتقوى أريد بالبر: ما هو مطلوب لذاته من الطاعات؛ إذ بها كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاح له بدونها. وبالتقوى: الطريق الموصل إلى البر والوسيلة إليه، وهي باجتناب المنهيات، فلفظها دالٌّ على أنها من الوقاية، فإن المتقي قد جعل بينه وبين النار وقاية، فالوقاية من باب دفع الضرر، والبر من باب تحصيل النفع، فالتقوى كالحمية، والبر كالعافية والصحة[2].
وإذا أفرد كل واحد منهما دخل في مسمى الآخر؛ إما تضامنًا، وإما لزومًا، ودخوله فيه تضامنًا أظهر؛ لأن البر جزء مسمى التقوى، والتقوى جزء مسمى البر[3].
[1] الرسالة التبوكية لابن القيم (5 ـ 6) [دار عالم الفوائد].
[2] الرسالة التبوكية (11).
[3] الرسالة التبوكية ضمن مجموع الرسائل (5).
قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ *} [البقرة] .
وقال: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ *} [الانفطار] .
وقال: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} [البقرة] .
وقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *} [المائدة] .
وعن البراء رضي الله عنه قال: «كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيوت من ظهرها، فأنزل الله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] »[1].
وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البر والإثم، فقال: «البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس»[2].
وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه يقول: قلت: يا رسول الله! أخبرني بما يحل لي وما يحرم عليَّ، قال: فصعّد النبي صلّى الله عليه وسلّم وصوب فيَّ النظر، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «البر ما سكنت إليه النفس، وأطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس، ولم يطمئن إليه القلب، وإن أفتاك المفتون»[3].
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما؛ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أبر البر أن يصل الرجل وُد أبيه»[4].
[1] أخرجه البخاري (كتاب تفسير القرآن، رقم 4512).
[2] أخرجه مسلم (كتاب البر والصلة والآداب، رقم 2553).
[3] أخرجه أحمد (29/278) [مؤسسة الرسالة، ط1]، ومن طريقه الطبراني في الكبير (22/219) [مكتبة ابن تيمية، ط2]، قال ابن رجب: «إسناد جيد». جامع العلوم والحكم (2/95) [مؤسسة الرسالة، ط7]، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (رقم 1735) [مكتبة المعارف، ط5].
[4] أخرجه مسلم (كتاب البر والصلة، رقم، 2552).
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الثوري رحمه الله: في قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} الآية، أن «هذه أنواع البر كلها»، «وصدق رحمه الله فإن من اتصف بهذه الآية، فقد دخل في عرى الإسلام كلها، وأخذ بمجامع الخير كله»[1].
وقال ابن جرير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ}: «فتأويل الآية إذًا: وليس البر أيها الناس بأن تأتوا البيوت في حال إحرامكم من ظهورها، لكن البر من اتقى الله، فخافه، واجتنب محارمه، وأطاعه بأداء فرائضه التي أمره بها، فأما إتيان البيوت من ظهورها، فلا بَرَّ لله فيه، فأتوها من حيث شئتم من أبوابها وغير أبوابها ما لم تعتقدوا تحريم إتيانها من أبوابها في حال من الأحوال، فإن ذلك غير جائز لكم اعتقاده لأنه مما لم أحرمه عليكم»[2].
وقال القاضي عياض رحمه الله: «البر بمعنى الصلة، وبمعنى الصدق، بمعنى اللطف والمبرة، والتحفى، وحسن الصحبة والعشرة، وبمعنى الطاعة»[3].
[1] تفسير ابن كثير (2/156).
[2] تفسير الطبري (3/557).
[3] إكمال المعلم للقاضي عياض (8/17) [دار الوفاء، ط1]، وانظر: شرح صحيح مسلم للنووي (16/111) [دار إحياء التراث العربي، ط2].
ـ مسألة: بر الكافر:
لا يختص البر بالمسلم، بل إن كان كافرًا جاز بره، والإحسان إليه إذا كان له عهد، لا سيما إذا كان الكافر والدين أو أحدهما، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم قالت: «قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومدتهم مع أبيها، فاستفتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة فأصلها؟ قال: نعم صليها» [1]. قال ابن عيينة رحمه الله: فأنزل الله عزّ وجل فيها: {لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة: 8] [2]. وقال عزّ وجل في حق الوالدين إذا كانا كافرين: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] .
فأمر الله تعالى بالإحسان إلى الوالدين ولو كانا كافرين[3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الجزية، رقم 3183)، ومسلم (كتاب الزكاة، رقم 1003).
[2] الأدب المفرد رقم (27) [دار البشائر الإسلامية، ط3].
[3] انظر: تفسير القرطبي (13/53) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وانظر: تفسير ابن كثير (2/156).
الفرق بين البر والإحسان:
البر إذا أطلق كان مسماه أعم لتناوله جميع الطاعات الظاهرة، والباطنة بخلاف الإحسان، فإنه أخص؛ لأنه إما أن يراد به ما يخص بمعاملة الخالق، وهو أعلى مراتب الإيمان كما في الحديث: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك» [1]، وإما أن يراد به معاملة الخلق بحسن الخلق، وكِلا المعنيين داخلان في معنى البر، وقد يراد بالإحسان الطاعة، وعلى هذا يكون معناه معنى البر كما في قوله تعالى: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ *} [البقرة] [2]
[1] أخرجه البخاري (كتاب الإيمان، رقم 50)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 9).
[2] انظر: إكمال المعلم للقاضي عياض (8/17)، وتفسير القرطبي (2/231)، وجامع العلوم والحكم (48 ـ 49 ـ 182 ـ 183 ـ 302 ـ 303).
قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}: «ليس البر أن تصلوا ولا أن تعملوا، فهذا حين تحول من مكة إلى المدينة، ونزلت الفرائض والحدود، فأمر الله بالفرائض والعمل بها»[1].
وعن الضحاك بن مزاحم رحمه الله؛ أنه قال: «ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك. وهذا حين تحوّل من مكة إلى المدينة، فأنزل الله الفرائض وحدَّ الحدود بالمدينة، وأمر بالفرائض أن يؤخذ بها».
وعن مجاهد رحمه الله قوله: «ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله»[2]
وقال الثوري رحمه الله: «{وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} الآية؛ قال: هذه أنواع البر كلها»[3].
[1] أخرجه الطبري في تفسيره (3/74) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/287) [مكتبة الباز، ط3].
[2] أخرجهما الطبري في تفسيره (3/336 ـ 337) [دار عالم الكتب، ط1]، وابن أبي حاتم في تفسيره (1/287) [المكتبة العصرية]، وانظر: تفسير ابن كثير (2/156).
[3] أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (1/287)، وانظر: تفسير ابن كثير (2/156).
1 ـ «الإيمان»، لأبو عبيد القاسم بن سلام.
2 ـ «السُّنَّة» (ج4)، للخلال.
3 ـ «الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية» (ج2)، لابن بطة العكبري.
4 ـ «تفسير الطبري».
5 ـ «تفسير ابن أبي حاتم».
6 ـ «مجموع الفتاوى» (ج7) و(20)، لابن تيمية.
7 ـ «الرسالة التبوكية»، لابن القيم.
8 ـ «جامع العلوم والحكم»، لابن رجب.
9 ـ «تفسير ابن كثير».
10 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز.