حرف الباء / البرزخ

           

قال ابن فارس رحمه الله: « البرزخ: الحائل بين الشيئين كأن بينهما برازًا؛ أي: متسعًا من الأرض، ثم صار كل حائل برزخًا»[1].
فالبرزخ: هو الحاجز والحد بين الشيئين، ومنه قوله تعالى: {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ *} [الرحمن] ، وجمعه برازخ، وأصله برزة فعُرِّبَ[2].


[1] مقاييس اللغة (1/308).
[2] انظر: مفردات ألفاظ القران (118) [دار القلم، ط2]، ولسان العرب (3/8) [دار صادر، ط3]، والتعريفات (63) [دار الكتاب العربي، ط2]، والكليات (226، 249)، وترتيب القاموس المحيط (1/248) [دار الفكر، ط3].


البرزخ: هو ما بين الدنيا والآخرة قبل الحشر، من وقت الموت إلى البعث، فمن مات فقد دخل البرزخ[1].


[1] انظر: لسان العرب (3/8)، وتفسير الطبري (9/243) [دار الكتب العلمية، ط1]، ومعالم التنزيل (5/428) [دار طيبة]، وزاد المسير (5/490) [المكتب الإسلامي، ط4]، وتفسير القرطبي (12/150) [دار إحياء التراث العربي]، وتفسير ابن كثير (3/256) [دار الفكر، 1406هـ]، وفتح القدير (3/499) [دار الفكر، 1403هـ].


المعنى الشرعي مأخوذ من الحقيقة اللغوية، إلا أنه حاجز وحائل خاص، وهو الحد بين حياة الدنيا ويوم القيامة.



يسمى البرزخ أيضًا: المعاد الأول، والبعث الأول كما نص عليه ابن القيم[1]، وأما القيامة الصغرى فهي الموت وهي من مقدمات اليوم الآخر.


[1] انظر: الجواب الصحيح لابن تيمية (1/424) [دار العاصمة، ط1]، وطريق الهجرتين لابن القيم (299) [دار ابن القيم، ط2].


يجب الإيمان بالبرزخ وما يكون فيه من أهوال وأحوال، كما جاءت بذلك نصوص الكتاب والسُّنَّة، وهو أحد مفردات الإيمان باليوم الآخر.



الحياة البرزخيَّة: هي ما بين الموت إلى البعث، والتي تتمثل في نعيم أهل الإيمان، وعذاب الكفار، وبعض العصاة قد يعذبون على بعض ذنوبهم. والموت هو بداية الحياة البرزخية، ويكون بمفارقة الروح للجسد، قال الله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ *} [المؤمنون] ، وتنتهي هذه الحياة بقيام الناس لربِّ العالمين للحساب يوم القيامة[1].


[1] انظر: تفسير الطبري (18/53)، تفسير ابن كثير (5/494).


البرزخ من مقدمات اليوم الآخر، وأول منازل الآخرة التي يقع فيه النعيم أو العذاب على مستحقه قبل يوم القيامة؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «القبر أول منازل الآخرة، فإن ينج منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه»[1].


[1] أخرجه الترمذي (أبواب الزهد، رقم 2308) وحسنه، ابن ماجه (كتاب الزهد، رقم 4267)، وأحمد (1/503) [مؤسسة الرسالة، ط1]، والحاكم (كتاب الرقاق، رقم 7942) وصححه، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (رقم 1684) [المكتب الإسلامي].


جاء لفظ البرزخ في القرآن الكريم دون السُّنَّة المطهرة، في قوله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ *} [المؤمنون] ، وأما الأدلة على معناه وما يجري فيه فكثيرة جدًّا، وهي متناثرة ضمن الكلام على مفردات البرزخ.



سئل مجاهد رحمه الله عن قول الله تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ *} [المؤمنون] ، قال: «هو ما بين الموت إلى البعث»[1].
وقال النحاس رحمه الله: «روي أن رجلاً قال بحضرة الشعبي رحمه الله: رحم الله فلانًا قد صار من أهل الآخرة، قال: لم يصر من أهل الآخرة ولكن صار من أهل البرزخ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة»[2].
وقال ابن القيم رحمه الله: «ينبغي أن يعلم أن عذاب القبر ونعيمه اسم لعذاب البرزخ ونعيمه، وهو ما بين الدنيا والآخرة... وهذا البرزخ يشرف أهله فيه على الدنيا والآخرة»[3].


[1] أخرجه هناد بن السري في الزهد برقم (314).
[2] إعراب القرآن (3/123) [عالم الكتب، 1409هـ].
[3] الروح (128) [دار الكتاب العربي، ط4، 1410هـ].


المسألة الأولى: الحياة البرزخية:
تختص الحياة البرزخية عن غيرها بأحكام، وتختلف بها عن دار الدنيا ودار القرار، فدور العبد ثلاث: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار، وقد جعل الله لكل دار أحكامًا تختص بها، وركّب هذا الإنسان من بدن ونفس، وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان، والأرواح تبع لها، وجعل أحكام دار البرزخ على الأرواح، والأبدان تبع لها، وجعل أحكام دار القرار على الأرواح والأجساد جميعًا[1].
المسألة الثانية: إدراك الأحياء للحياة البرزخية:
دار البرزخ من الغيب النسبي الذي يمكن أن يدرك بالحس والمشاهدة؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله سبحانه وتعالى أن يسمعكم من عذاب القبر» [2]، فذكر عذاب القبر وعلة عدم السماع.
وفي حديث أم مبشر قالت: دخل عليَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا في حائط من حوائط بني النجار فيه قبور منهم، قد ماتوا في الجاهلية، فسمعهم وهم يُعَذَّبون، فخرج وهو يقول: «استعيذوا بالله من عذاب القبر» قالت: قلت: يا رسول الله، وإنهم لَيُعَذَّبون في قبورهم؟ قال: «نعم، عذابًا تسمعه البهائم»[3].
المسألة الثالثة: حياة الأنبياء في البرزخ:
الذي عليه أهل العلم أن الأنبياء أحياء في قبورهم حياة برزخية لا يعلم كُنْهَها وكيفيتَها إلا الله سبحانه، وليست من جنس حياة أهل الدنيا، بل هي نوع آخر، ففي الحديث الصحيح: «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى ليلة المعراج آدم في السماء الدنيا، ورأى في السماء الثانية عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا عليه السلام، ورأى في السماء الثالثة يوسف عليهم السلام، وهكذا سائر الأنبياء الذين رآهم»[4].
وعن أنس بن مالك؛ أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون»[5].
وهذه الحياة البرزخية أكمل من حياة الشهداء التي أخبر الله عنها سبحانه بقوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ *} [آل عمران] . فتكون لهم من الحياة البرزخية أكمل من الذي لهم، ولكن لا يلزم من هذه الحياة أنه يعلم الغيب، أو يعلم أمور أهل الدنيا، أو يعمل لأحد من الناس، أو يستغفر لهم[6].


[1] الروح (114، 115)، وشرح العقيدة الطحاوية (396) [المكتب الإسلامي، ط4، 1391هـ].
[2] أخرجه مسلم (كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، رقم 2868).
[3] أخرجه أحمد (44/592) [مؤسسة الرسالة، ط1]، وابن حبان (كتاب الجنائز، رقم 3125)، وقال الهيثمي في المجمع (3/56) [مكتبة القدسي]: «رجاله رجال الصحيح». وصححه الألباني على شرط مسلم. انظر: السلسلة الصحيحة (رقم 1444).
[4] أخرجه البخاري (كتاب بدء الخلق، رقم 3207)، ومسلم (كتاب الإيمان، رقم 164).
[5] أخرجه البزار (13/299) [مكتبة العلوم والحكم، ط1]، وأبو يعلى (6/147) [دار المأمون، ط1]، وصححه المناوي في فيض القدير (3/184) [المكتبة التجارية الكبرى، ط1]، وقال ابن الملقن: قال البيهقي: وهذا إسناد صحيح. وهو كما قال؛ لأن رجاله كلهم ثقات، البدر المنير (5/285)، وجوَّد الألباني إسناده في السلسلة الصحيحة (2/189).
[6] انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (1/354 ـ 355)، والصارم المنكي لابن عبد الهادي (225)، مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (2/386).


التفكر في البرزخ، والوقوف على الأدلة التي تبين أحواله وما يجري فيه من نعيم أو عذاب من أكبر الأسباب الباعثة على فعل الخير والطاعة، والزاجرة عن الشر والمعصية.



لما كانت الحياة البرزخية مقرها القبر، فإن المخالفين فيها، هم الذين خالفوا فيما يقع في القبر من النعيم والعذاب.
فمن المخالفين من أنكر عذاب القبر ونعيمه بالكلية.
وهذا مذهب بعض المعتزلة[1]، والروافض[2][3]، والخوارج[4].
وذهب بعضهم إلى وقوع العذاب والنعيم على الروح دون الجسد.
وقيل: بوقوع العذاب للكافرين، والنعيم للمؤمنين[5].
ولا شك أن هذه الأقوال كلها باطلة: فإن عذاب القبر ونعيمه قد جاء به القرآن الكريم، والسُّنَّة الصحيحة المتواترة، وأجمع عليه السلف الصالح، فلا يجوز إنكاره.
ومن الشبه النقلية التي أثاروها قولهم: إن الله لم يذكر حياة القبر في قوله: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] ، وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ *} [البقرة] ، وإنما ذكر أنه يحييهم مرة في الدنيا وأخرى في الآخرة[6].
والآيتان هما عمدة من أنكر عذاب القبر من المعتزلة والخوارج ومن نحا نحوهما[7].
ويجابون بأن مذهبهم مخالف لما عليه جمهور السلف، فالمشهور من أقوال المفسرين في الموتتين والحياتين:
أن المراد بالموت الأول: العدم السابق، وبالثاني: الموت المعهود في الدار الدنيا.
والمراد بالإحياء الأول: حياة الدنيا، وبالثاني: البعث للقيامة الكبرى.
وقد رجح هذا القول الطبري[8]، وابن الجوزي[9] ونسبه لابن عباس، وقتادة، والفراء، وثعلب، والزجاج، وابن الأنباري، وهو قول ابن كثير[10]، وعليه جمهور السلف[11].
وعلى هذا القول فإنه ليس فيه ما ينفي حياة القبر؛ لأن إثبات الموتتين والحياتين المذكورتين في الآيتين لا ينفي وجود غيرهما؛ كما دل عليه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} [البقرة: 234] ، فأثبت لهم حياة زائدة يتبعها موت، والدلائل القرآنية في هذا المعنى كثيرة.
وأيضًا فحياة القبر، وعود الروح إلى الجسد للمساءلة، وما يتبع ذلك من العذاب أو النعيم قد ثبت بصحيح السُّنَّة، فلا يجوز إنكاره.
ولا بدَّ من الجمع بين نصوص الكتاب والسُّنَّة، والأخذ بهما معًا دون تفريق، كما فعل جمهور السلف المفسرون لمعنى الآيتين الآنفتين.


[1] انظر: مقالات الإسلاميين (2/166) [المكتبة العصرية]، والإبانة عن أصول الديانة (13، 14) [دار الكتاب العربي، ط1]، والفصل في الملل والأهواء والنحل (4/117) [دار الجيل]، وعقائد الثلاث وسبعين فرقة (1/352، 416) [مكتبة العلوم، ط1]، ولوائح الأنوار السَّنية (2/150) [مكتبة الرشد، ط1]، ولوامع الأنوار البهية (2/20) [المكتب الإسلامي، ط3]، وفتح الباري (3/275) [دار الفكر].
[2] انظر: عقائد الثلاث وسبعين فرقة (1/452)، ولطوائفها في ذلك تأويلات فاسدة، انظر: الإسماعلية المعاصرة (94) [ط 1، 1414هـ]، والبابية عرض ونقد (205) [دار ترجمان السُّنَّة، ط6، 1404هـ].
[3] ورد في بعض كتب الشيعة الاثني عشرية إثبات لعذاب البرزخ ونعيمه، ولكنه إثبات مشوه مخالف لما دلَّت عليه نصوص الوحي إذ يجعلون مقر النعيم والعذاب أرضيًّا في هذه الدنيا. والشيعة الغلاة لا يؤمنون بحقيقة البرزخ؛ لقولهم بتناسخ الأرواح، ومن الشيعة الغلاة في هذا الباب: الفرق القديمة القائلة بحلول روح الإله في الأئمة، نحو: السبئية، والكيسانية، والكاملية، وغلاة الاثني عشرية... وغيرهم، ومن الغلاة المعاصرين: الإسماعيلية وسائر الفرق الباطنية الأخرى التي لها وجود اليوم، مثل: الدروز، والنصيرية، والبابية، والبهائية وغيرهم، والذي يجمعهم القول بالتناسخ والظاهر والباطن. راجع للتفصيل: الروح في الديانات والدعاوى المعاصرة (2/108 ـ 204) [رسالة دكتوراه، جامعة الإمام].
[4] انظر: مقالات الإسلاميين (2/116)، والفصل (4/117)، وفتح الباري (3/275).
[5] انظر: رسائل الآخرة (1/225 ـ 260).
[6] انظر: تفسير الرازي (1/166) [دار الفكر، ط3]، والفصل (4/117).
[7] انظر: الفصل (4/117).
[8] انظر: تفسير الطبري (1/225) [دار الكتب العلمية].
[9] انظر: زاد المسير (1/57) [المكتب الإسلامي، ط4].
[10] تفسير ابن كثير (1/68).
[11] انظر: فتح القدير (4 / 484) [دار الفكر]


1 ـ «الإرشاد إلى صحيح الاعتقاد»، للفوزان.
2 ـ «الجواب الصحيح»، لابن تيمية.
3 ـ «رسائل الآخرة»، للعبيدي.
4 ـ «الروح»، لابن القيم.
5 ـ «الزهد»، لهناد بن السري.
6 ـ «شرح العقيدة الطحاوية»، لابن أبي العز الحنفي.
7 ـ «الصارم المنكي في الرد على السبكي»، لابن عبد الهادي.
8 ـ «طريق الهجرتين وباب السعادتين»، لابن القيم.
9 ـ «مجموع الفتاوى»، لابن تيمية.
10 ـ «مجموع فتاوى الشيخ ابن باز».