قال ابن فارس رحمه الله: «الباء والصاد والراء أصلان: أحدهما: العلم بالشيء؛ يقال: هو بصير به... والبصيرة الترس فيما يقال. والبصيرة: البرهان. وأصل ذلك كله وضوح الشيء. ويقال: رأيته لمحًا باصرًا؛ أي: ناظرًا بتحديق شديد. ويقال: بصرت بالشيء إذا صرت به بصيرًا عالمًا، وأبصرته إذا رأيته. وأما الأصل: الآخر فبُصْر الشيء غلظه. ومنه البَصْر، هو أن يضم أديم إلى أديم، يخاطان كما تخاط حاشية الثوب...»[1]. والمراد به هنا هو الأصل الأول، فالبصير خلاف الضرير، وهو مأخوذ من البصر الذي معناه: الرؤية والوضوح والعلم[2].
[1] مقاييس اللغة (1/132) [دار الكتب العلمية، ط1].
[2] انظر: الصحاح (2/591 ـ 592) [دار العلم للملايين].
يجب الإيمان بهذا الاسم وما دل عليه من الصفة، وهو اتصاف الله تعالى بصفة البصر القائمة بذاته، ورؤيته سبحانه لجميع المبصَرات والمرئيات، وذلك لدلالة الكتاب والسُّنَّة عليهما، ويجب إثباتهما لله تعالى كما يليق بجلاله وكبريائه وعظمته سبحانه، من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تمثيل[1].
[1] انظر: التدمرية (7، 22 ـ 23)، والواسطية مع شرحها لابن عثيمين (56 ـ 92، 275 ـ 278) [دار الثريا، ط2].
البصر: يأتي بمعنى: العلم وبمعنى: الرؤية، والله سبحانه وتعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة، ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو سبحانه عليم خبير بصير، يبصر ويرى جميع مخلوقاته في جميع أحوالهم، يعلم جميع أمورهم وأحوالهم وأعمالهم في كل وقت وفي كل مكان[1].
[1] انظر: كتاب التوحيد لابن خزيمة (1/114 ـ 115) [مكتبة الرشد، ط5]، والحجة في بيان المحجة (1/196 ـ 197) [دار الراية، الرياض، ط2].
هذا الاسم تكرر وروده في القرآن الكريم في أكثر من أربعين موضعًا، منها: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ *} [الشورى] ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ *} [فاطر] ، وقوله: {إِذْ قَالَ لأَِبِيهِ يَاأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا *} [مريم] .
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في سفر، فكنا إذا علونا كَبَّرْنا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أيها الناس! اربعوا على أنفسكم؛ فإنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائبًا، ولكن تدعون سميعًا بصيرًا»[1].
وعن سليم بن جبير مولى أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إلى قوله تعالى: {سَمِيعًا بَصِيرًا *} [النساء] قال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه. قال أبو هريرة رضي الله عنه: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرؤها، ويضع إصبعيه[2]. قال ابن تيمية رحمه الله: «ولا ريب أن مقصوده بذلك تحقيق الصفة، لا تمثيل الخالق بالمخلوق»[3].
[1] أخرجه البخاري (كتاب الدعوات، رقم 6384)، واللفظ له، ومسلم (كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار رقم 2704).
[2] أخرجه أبو داود (كتاب السُّنَّة، رقم 4728)، ومن طريقه البيهقي في الأسماء والصفات (1/462) [مكتبة السوادي، ط1]، وابن حبان (كتاب الإيمان، رقم 265)، وقال ابن حجر في الفتح (13/373) [دار المعرفة]: «أخرجه أبو داود بسند قوي على شرط مسلم»، وصحح إسناده الألباني في صحيح سنن أبي داود رقم (4728).
[3] شرح العقيدة الأصفهانية (74) [دار الكتب الإسلامية].
قال عبد الله بن يزيد المقري رحمه الله: «إن الله سميع بصير؛ يعني: إن لله سمعًا وبصرًا». قال أبو داود رحمه الله تقريرًا لقوله وتعقيبًا عليه: «وهذا ردٌّ على الجهمية»[1].
وقال ابن خزيمة رحمه الله: «نحن نقول: لربنا الخالق عينان يبصر بهما ما تحت الثرى وتحت الأرض السابعة السفلى، وما في السماوات العلى، وما بينهما من صغير وكبير، لا يخفى على خالقنا خافية في السماوات السبع، والأرضين السبع، ولا مما بينهن، ولا فوقهن، ولا أسفل منهن، لا يغيب عن بصره من ذلك شيء، يرى ما في جوف البحار ولججها، كما يرى عرشه الذي هو مستو عليه»[2].
وقال قوام السُّنَّة أبو القاسم التيمي رحمه الله: «واجب على كل مؤمن أن يثبت من صفات الله سبحانه وتعالى ما أثبته الله لنفسه، وليس بمؤمن من ينفي عن الله ما أثبته الله لنفسه في كتابه، فرؤية الخالق لا تكون كرؤية المخلوق، وسمع الخالق لا يكون كسمع المخلوق، قال الله تعالى: {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] وليس رؤية الله تعالى بني آدم كرؤية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، وإن كان اسم الرؤية يقع على الجميع... جلَّ وتعالى عن أن يشبه صفة شيء من خلقه صفته، أو فعل أحد من خلقه فعله، فالله تعالى يرى ما تحت الثرى وما تحت الأرض السابعة السفلى وما في السماوات العلى، لا يغيب عن بصره شيء من ذلك ولا يخفى، يرى ما في جوف البحار ولججها، كما يرى ما في السماوات، وبنو آدم يرون ما قرب من أبصارهم، ولا تدرك أبصارهم ما يبعد منهم، ولا يدرك بصر أحد من الآدميين ما يكون بينه وبينه حجاب، وقد تتفق الأسامي وتختلف المعاني»[3].
[1] سنن أبي داود (709 ـ 710) (كتاب السُّنَّة، بعد ذكره الحديث برقم 4728).
[2] كتاب التوحيد لابن خزيمة (1/114 ـ 115).
[3] الحجة في بيان المحجة (1/196 ـ 197).
المسألة الأولى: اسم الله البصير يدل على اتصاف الله تعالى بصفة البصر:
فهو سبحانه يرى المبصَرات والمرئيات كلها، وهو عليم خبير، فجميع معاني هذه الصفة ثابتة لله سبحانه وتعالى، والأدلة على اتصاف الله بهذه الصفة كثيرة، ويصعب حصر أفرادها، وقد أجمع أهل السُّنَّة على هذا، قال أبو نعيم الأصبهاني رحمه الله: «طريقتنا طريقة السلف المتبعين للكتاب والسُّنَّة وإجماع الأمة، ومما اعتقدوه أن الله لم يزل كاملاً بجميع صفاته القديمة لا يزول ولا يحول، لم يزل عالمًا بعلم، بصيرًا ببصر، سميعًا بسمع...»[1].
المسألة الثانية: إن نظر الله إلى عباده ومخلوقاته ورؤيته لهم ولأعمالهم عام شامل محيط بجميع الخلق وأعمالهم:
وهو الذي تدل عليه عامة الأدلة من القرآن والسُّنَّة، ولكن الله سبحانه وتعالى قد يخص بعض خلقه بالنظر إليهم على وجه الخصوص، وفي ذلك مزيد فضل وشرف وعناية وحفظ ورعاية ونصر وتأييد لهم، ومنه قوله تعالى: {لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى *} [طه] وقوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37] وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] ، وقوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي *} [طه] .
قال ابن تيمية: «وقد جاء في القرآن والسُّنَّة في غير موضع أنه يخص بالنظر والاستماع بعض المخلوقات... وتخصيص من يحب بالنظر والاستماع المذكور يقتضي أن هذا النوع منتف عن غيرهم»[2].
[1] نقله عنه الذهبي في: العلو للعلي الغفار (176) [المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، ط2، 1388هـ].
[2] مجموع الفتاوى (13/133).
لا شكَّ أن البصير اسم من أسماء الله الحسنى، ولم ينكر ذلك إلا الجهمية وشيوخهم من الفلاسفة وتلاميذهم من غلاة الصوفية وزنادقة الباطنية، والذين ينكرون جميع أسماء الله الحسنى وصفاته العلى.
وهذا الاسم يدل على اتصاف الله سبحانه وتعالى بصفة البصر، وهذا أمر متفق عليه عند جميع أهل الإثبات مع شيء من الاختلاف بين أهل السُّنَّة والجماعة وبين الأشاعرة ومن وافقهم.
والكتاب والسُّنَّة والإجماع والقياس كل ذلك يرد على من أنكر هذا الاسم أو نفى هذه الصفة عن الله سبحانه وتعالى[1]. قال ابن تيمية رحمه الله: «إن النافي ليس معه حجة لا سمعية ولا عقلية، وأن الأدلة العقلية الصريحة موافقة لمذهب السلف وأهل الحديث، وعلى ذلك يدل الكتاب والسُّنَّة مع الكتب المتقدمة؛ التوراة والإنجيل والزبور، فقد اتفق عليها نصوص الأنبياء وأقوال السلف وأئمة العلماء، ودلَّت عليها صرائح المعقولات؛ فالمخالف فيها كالمخالف في أمثالها ممن ليس معه حجة لا سمعية ولا عقلية»[2].
[1] انظر من كتب أهل السُّنَّة: سنن أبي داود (709 ـ 710) [مكتبة المعارف، ط1]، ونقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد (128 ـ 153) [أضواء السلف، ط1]، ومن كتب المعتزلة: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار (227) [مكتبة وهبة، ط2]، والكشاف للزمخشري (1/310، 573، 4/226) [مكتبة العبيكان، ط1].
[2] مجموع الفتاوى (6/257).
1 ـ «الرسالة التدمرية»، لابن تيمية.
2 ـ «الحجة في بيان المحجة»، لقوام السُّنَّة التيمي.
3 ـ «رسالة إلى أهل الثغر»، للأشعري.
4 ـ «الصواعق المرسلة» (ج3)، لابن القيم.
5 ـ «العقيدة الواسطية وشرحها»، لابن عثيمين.
6 ـ «العلو للعلي الغفار»، للذهبي.
7 ـ كتاب «التوحيد»، لابن خزيمة.
8 ـ «مجموع الفتاوى» (ج5 و6 و13)، لابن تيمية.
9 ـ «منهج أهل السُّنَّة والجماعة ومنهج الأشاعرة في توحيد الله تعالى» (ج2)، لخالد بن عبد اللطيف.
10 ـ «نقض عثمان بن سعيد على المريسي الجهمي العنيد»، لعثمان بن سعيد الدارمي.